ابن عدي الجرجاني وجهود في علم الجرح والتعديل من خلال كتابه: “الكامل في ضعفاء الرجال”
بسم الله الرحمن الرحيم
Journal of The Islamic University Studies (Part-A), Vol 9, No2, June. 2001
ابن عدي الجرجاني وجهود في علم الجرح والتعديل
من خلال كتابه: “الكامل في ضعفاء الرجال”
إعداد:
د. خوندكار أبو نصر عبد الله جهانغير
أستاذ مساعد بقسم الحديث والدراسات الإسلامية
الجامعة الإسلامية، كوشتيا
ابن عدي الجرجاني، وجهوده في علم الجرح والتعديل:
من خلال كتابه “الكامل” في ضعفاء الرجال
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
ومن والاه. وبعد، فإن الله تعالى قد هيأ لسنة نبيه r جهابذة من العلماء
الذين بذلوا حياتهم في خدمة السنة النبوية المطهرة، ورد الأكاذيب والأباطيل
عنها. ومن أبرز أئمة الجرح والتعديل الذين أفنوا حياتهم في معرفة أحوال
الرجال ومكانتهم في الحفظ والعدالة والضبط، وبيان رتبهم في الجرح والتعديل،
وشرح أوهامهم في مروياتهم من خلال الموازنة والتمحيص الإمام أبو أحمد عبد
الله بن عدي الجرجاني. وفي هذه العجالة سأحاول التعريف بهذا الإمام العلم
من أعلام الإسلام، وبجهوده في علم الجرح والتعديل ومنهجه فيه، والله تعالى
أسأل التوفيق والسداد، وعليه أتوكل وإليه أنيب.
اسمه، ونسبه، ومولده:
هو أبو أحمد عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك الجرجاني. ويعرف أيضا بابن القطان[1]. ومولده في سنة سبع وسبعين ومائتين (277هـ)[2].
نشأته، وطلبه للعلم ورحلاته وشيوخه:
نشأ الطفل “عبد الله” في تلك البيئة العلمية التي سبقت
الإشارة إليها، والتي كانت علوم الحديث من أبرز ثقافاتها. فلا غرو أن تتجه
عناية هذا النشء إلى علوم الحديث منذ صباه. ويبدو أنه نشأ في أول أمره وبدأ
تعلمه في الكتاتيب. فلما أنهى تحصيل مبادئ العلوم ووسائلها بدأ في حضور
علماء الحديث لسماع الحديث وروايته، وذلك في حدود الثالثة عشرة من عمره،
حيث قال الذهبي: “وأول سماعه كان في سنة تسعين[3].
ويبدو أنه قد اجتهد أن يتتلمذ على أبرز علماء جرجان قبل أن يخرج في
الترحال في طلب العلم. ومما يدل على ذلك أنه قال: “حدثنا عبد الملك بن محمد
سنة اثنتين وتسعين ومائتين (292هـ)”[4].
وعبد الملك هذا هو الإمام الحافظ الكبير، شيخ خراسان، أبو نُعَيم، عبد
الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الأستراباذي، الفقيه الشافعي (323هـ)[5]، فعبد الله بن عدي قد عني في هذه الفترة المبكرة من عمره بالذهاب إلى مثل هذا العالم والاستماع منه تقييده وحفظه.
وبعد أن قضى عبد الله حوالي سبع سنين في السماع والتحصيل العلمي في بلدته، بدأ رحلاته العلمية خارج إقليمه سنة 297هـ[6]،
فتجول في الأقطار الإسلامية يسمع ويأخذ من علمائها وجهابذتها، فأخذ من
علماء الحرمين الشريفين، ومصر والشام والعراق وخراسان والجبال وغيرها من
البلدان الإسلامية[7].
فإننا نراه في كتابه “الكامل” يذكر كثيراً من شيوخه مع نسبتهم إلى مواطنهم
وبلدانهم، مثل قوله: “أخبرنا محمد بن يحيى بن سلميان المروزي”[8]، و”حدثنا محمد بن عبد الله بن فضيل الحمصي”[9]، و”حدثنا عبدان الأهوازي”[10]، و”حدثنا جعفر بن أحمد بن عاصم الدمشقي”[11]، و”حدثنا محمد بن يحيى بن آدم ا لمصري”[12]، و”بهلول بن إسحاق بن بهلول الأنباري”[13]، و”أخبرنا محمد بن الحسين بن حفص الأشناني الكوفي”[14]، و”أخبرنا الحسن بن محمد المديني”[15]، و”أنبأنا الحسن بن الفرج الغزي”[16]، و”حدثنا علي بن إسحاق بن رداء الطبراني”[17]، و”أخبرنا عبد الله بن محمد بن مرة البصري”[18]، و”أخبرنا إبراهيم بن سعيد القلانسي المنبجي”[19]، و”حدثنا محمد بن موسى الحلواني”[20]، و”سمعت عمر بن نصر الحلبي”[21]، و”أخبرنا إبراهيم بن عمر بن إسحاق السمرقندي”[22]، ونحو ذلك كثير، مما ظاهره أنه سمع من هؤلاء الشيوخ في بلادهم.
وفي أحيان أخرى نراه يصرح بعد ذكر الشيخ بالبلد الذي سمع فيه
منه، مثل قوله: “حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن يزيد الإسفرائيني بـ(إسفرائين)”[23]، و”حدثنا علي بن أحمد بن علي بن عمران الجرجاني بـ(حلب)”[24]، و”حدثنا أحمد بن محمد بن زنجويه بـ(مصر)”[25]، و”أخبرنا الحسين بن الحسن بن سفيان الفارسي بـ(بخارى)”[26]، و”حدثني أحمد بن سعيد بن فرضخ بـ(إخميم)”[27]، و”أخبرنا أبو عصمة سهل بن مج بـ(بخارى)”[28]، و”سمعت جعفر بن بيان الغافقي بـ(مصر)”[29]، و”سمعت محمد بن نوح الجنديسابوري بـ(مصر)”[30]، و”أخبرني شيخ كاتب بـ(بغداد) في حلقة أبي عمران بن الأشيب”[31]، و”سمعت الحسن بن الحسين البزاز بـ(بخارى)”[32]، و”حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عثمان المديني بـ(مصر)”[33]، و”حدثنا محمد بن الفضل بن البزاز بـ(حلب)”[34]، و”سمعت محمد بن موسى الحضرمي، يعرف بأخي أبي عجينة بـ(مصر)”[35]، و”حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن موسى بن عدي الجرجاني بـ(مكة)”[36]، و”قال لي محمد بن عبد الله بن فضيل بـ(حمص)”[37]، و”سمعت أبا عبد الله النهاوندي بـ(حران)”[38]،
وغير ذلك كثير جداً، مما يدلنا على أنه لم يضع عصا الترحال حتى مر على
معظم المدن والقرى المعروفة بالعلم والعلماء في ذلك العصر، كما ينبئنا مدى
ما تحمله من المشاق والمتاعب في سبيل التعلم والتحصيل. ومن خلال تلك
الأسفار الكثيرة والرحلات العديدة في أنحاء العالم الإسلامي أخذ ابن عدي من
أبرز شيوخ عصره، حتى زاد عدد شيوخه الذين أخذ عنهم وسمع منه على “ألف شيخ”[39]. ومن أبرزهم:
1- الشيخ المحدث أبو بكر محمد بن يحيى بن سليمان المروزي ثم البغدادي (298هـ)[40].
2- الشيخ المسند خطيب الأنبار أبو أحمد بهلول بن إسحاق بن بهلول بن حسان التنوخي (298هـ)[41].
3- الشيخ المحدث الثقة، أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الربعي، الحنفي، البغدادي، ابن الإمام، نزيل دمياط (300هـ)[42].
4- الإمام الحافظ الثبت، شيخ الوقت، المحدث الفقيه، أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض التركي الفريابي (301هـ)[43].
5- الشيخ المعمر إبراهيم بن أسباط بن السكن، الكوفي البزار (302هـ)[44].
6- الإمام الحافظ الثبت، شيخ الإسلام أحمد بن شعيب بن علي بن سنان، أبو عبد الرحمن الخراساني النسائي (303هـ)[45].
7- الإمام العلامة المحدث الأديب الأخباري، شيخ الوقت، أبو خليفة الفضل بن الحُبَاب الجمحي البصري (305هـ)[46].
8- العلامة، فقيه مصر، أبو الحسن منصور بن إسماعيل التميمي الشافعي (306هـ)[47].
9- الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى التميمي، أبو يعلى الموصلي، محدث الموصل (307هـ)[48]
10- الإمام الحافظ البارع الحجة أبو بكر محمد بن الحسين بن مُكْرَم البغدادي، نزيل البصرة (ت 309هـ)[49].
11- الإمام الثقة المحدث الكبير، أبو العباس محمد بن الحسن بن قتيبة بن زيادة اللخمي العسقلاني (310هـ)[50].
12- الإمام الحافظ الكبير الجوال، أبو عوانة، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري الأصل، الإسفرائيني (316هـ)[51].
13- الإمام العلامة الحافظ، شيخ بغداد، أبو بكر عبد الله بن أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (316هـ)[52]
14- الحافظ الإمام الحجة، مسند العصر، عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن مرزبان بن سابور، أبو القاسم البغوي، البغدادي (317هـ)[53]
15- الإمام الحافظ المعمر الصادق، أبو عروبة، الحسين بن محمد بن أبي معشر مودود السلمي الحراني (318هـ)[54].
16- الإمام الحافظ المجود محدث العراق، الرحال الجوال عالم العلل والرجال أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد الهاشمي البغدادي (318هـ)[55].
17- المحدث الثقة العالم، أبو عبد الله محمد بن يوسف الفَرَبْرِيُّ، راوي صحيح البخاري (320هـ)[56].
18- الإمام العلامة الحافظ الكبير، أحمد بن محمد بن سلامة، أبو جعفر الطحاوي الفقيه المحدث المصري (321هـ)[57].
19- العلامة الحافظ الناقد أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، ابن أبي حاتم الرازي (327هـ)[58].
وغيرهم كثيرون وكثيرون، بل الذي يطلع على كتابه “الكامل” يعلم
أنه كان أن يستوعب مشايخ عصره كلهم، فلم يكد يترك أحداً من أعلام عصر في
شتى بلاد العالم الإسلام، من شرقه إلى غربه، وجنوبه وشماله إلا أخذ عنه
وسمع منه واستفاد وأفاد.
تلاميذه وآثاره العلمية:
هكذا أصبح ابن عدي من أبرز علماء الإسلام في عصره، ولا سيما
في علم العلل ونقد الرجال، وصار محط أنظار الراغبين في هذه العلوم، فأخذ
عنهم كثر من علماء عصره، حتى بعض شيوخه. ومن جملة من أخذ عنه واستفاد منه:
1- شيخه الحافظ العلامة، نادرة الزمان، أحمد بن محمد
بن سعيد بن عبد الرحمن، أبو العباس الكوفي، ابن عقدة، الهَمْدَاني (332هـ)[59].
2- الإمام المحدث الصادق، الزاهد الجوال، الملقب “طاووس الفقراء”، أبو سعد أحمد بن محمد الأنصاري الهروي الماليني الصوفي (412هـ)[60]
3- الشيخ الإمام الصدق، خطيب بوشنج، أبو الحسين أحمد بن محمد بن منصور بن العالي، الخراساني (419هـ)[61].
4- الإمام الصالح المحدث، شيخ الصوفية، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن باكُويه، الشيرازي (428هـ)[62].
5- الإمام الحافظ، المحدث المتقن، محدث جرجان، أبو القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم بن موسى القرشي السهمي (428هـ)[63].
إلى جانب التعليم والتدريس والإفادة عني الإمام ابن عدي بالتأليف في مختلف فنون علم الحديث. ومن مؤلفاته[64]:
1- الكامل في ضعفاء الرجال
2- “الانتصار” على أبواب “المختصر” للمزن.
3- معجم الشيوخ.
4- علل الحديث
5- أسامي من روى عنهم البخاري
6- أسماء الصحابة
وفاته وثناء العلماء عليه:
بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي طالت حوالي 90 سنة، توفي
الإمام ابن عدي في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وثلاثمائة (365هـ)، الموافق
976م[65].
وقد أعجب به وبأعماله، ولا سيما كتابه “الكامل” العلماء الذين جاؤوا من
بعده، فأثنوا عليه ثناء جميلاً، وأكبروا من قدره. فقال الذهبي: “طال عمره
وعلا إسناده، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وتقدم في هذه الصناعة على لحن فيه،
يظهر في تأليفه”[66].
وقال تلميذه، محدث خراسان، حمزة بن يوسف السهمي: سألت الدارقطني أن يصنف
كتاباً في الضعفاء، فقال: أليس عندك كتاب ابن عدي؟ قلت: بلى، قال: فيه
كفاية، لا يزاد عليه”[67].
وقال السهمي أيضا: “كان ابن عدي حافظاً متقنا، لم يكن في زمانه أحمد مثله،
تفرد برواية أحاديث، وهب منها لابنيه عدي وأبي زرعة فتفردا بها عنه”[68].
وقال الإمام الحافظ الخليل بن عبد الله، أبو يعلى الخليلي
القزويني (446هـ): “أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ الجرجاني عديم النظر
حفظاً وجلالة. سألت عبد الله بن محمد القاضي الحافظ فقلت: كان ابن عدي أحفظ
أم ابن قانع؟ فقال: ويحك! زر قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي (بن قانع)”[69].
وقال الخليلي أيضا: “سمعت أحمد بن أبي مسلم الفارسي الحافظ يقول: لم أر
مثل أبي أحمد بن عدي الجرجاني، فكيف فوقه في الحفظ؟ وكان قد لقي أبا القاسم
الطبراني وأبا أحمد الكرابيسي والحفاظ، وقال لي: كان حفظ هؤلاء تكلفاً،
وكان أبو أحمد بن عدي حفظه طبعاً”[70].
وقال الإمام ابن كثير: “أبو أحمد بن عدي: الحافظ الكبير المفيد الإمام
العالم الجوال النقال الرحال، له كتاب الكامل في الجرح والتعديل، لم يسبق
إلى مثله، ولا يلحق في شكله”[71]
وقال الإمام جلال الدين السيوطي (911هـ): “وهو عارف بالعلل منصف في الكلام على الرجال، حافظ متقن ثقة، لم يكن في زمانه مثله”[72]. وقال ابن قاضي شهبة: “هو أحد الأئمة الأعلام، وأركان الإسلام”[73].
هكذا رأينا مكانة الشيخ ابن عدي، ورأينا إعجاب الأئمة بكتابه
“الكامل”، وقد آن الأوان لنسبر أغوار هذا الكتاب فنطلع على منهجه وأسلوبه
ومزاياه. وقبل ذلك أود أن أشير إلى باختصار شديد إلى تعريف علم الجرح
والتعديل ونشأته وتطوره، حتى يتضح لنا جلياً جهود هذا الإمام في هذا الفن.
علم الجرح والتعديل وتطوره:
الجرح في اللغة الكسب أو الطعن. قال ابن فارس: “الجيم والراء والحاء أصلان: أحدهما الكسب، والثاني شق الجلد”[74] يقال: جرحه: شق فيه بدنه شقاً، وجرحه بلسانه: سبه وشتمه. وجرح الشاهد: طعن فيه ورد قوله، وأسقط عدالته، وجرح الشيء: كسبه[75]. وقد عرف في اصطلاح المحدثين بتعريفات، خلاصتها أنه “الطعن في عدالة الراوي أو ضبطه أو كليهما بما يقتضي رد حديثه وعدم قبول روايته”[76]. وأما التعديل فهو مأخوذ من العدل، وهو يدل على معنى الاستواء، العدل من الناس: المرضي المتوي الطريقة[77]. والتعديل: التسوية والإقامة، أو وصف الشخص بأنه عدل[78]. وهو في اصطلاح المحدثين “وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته”[79].
علم الجرح والتعديل مما اختصت به الأمة الإسلامية من بين الأمم. وهو المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه[80].
وهو الذي من خلاله حفظ الله لهذه الأمة دينها وشريعتها وسنة نبيها r. وقد
نشأ هذا العلم وترعرع في العهد النبوي الشريف وعهد الصحابة الميمون. فالنبي
المصطفى r حث أمته على حفظ حديثه وروايته كما سمع دونما تغيير. وقد رويت
أحاديث عديدة بهذا المعنى عن عدة من الصحابة[81].
ثم إنه r حذرهم أشد تحذير من التقول عليه ما لم يقل. فقال r:”لا
تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ”[82].
وقد نقل عنه r هذا المعنى جماعة كبيرة من الصحابة نقلاً متواتراً. ومن جهة
ثانية أمرهم بالتثبت في الرواية وحذرهم من رواية المشكوك فيه أو الضعيف.
فقال r: “كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ”[83]، وقال r: “مَنْ حَدَّثَ عَنِّيْ حَدِيْثًا وَهُوَ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ”[84].
ثم إنه r حذر أمته من الكذابين والأخذ منهم أو قبول أحاديثهم فقال r:
“سَيَكُونُ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِيْ يُحَدِّثُونَكُمْ
بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ
وَإِيَّاهُمْ”[85].
فتلك التوجيهات النبوية الكريمة توجه الأمة إلى أخذ الحذر في
رواية الحديث، والتثبت من قبوله. فالراوي يجب عليه أن لا يروي إلا ما حفظ
وضبط وتأكد من صحة كل لفظ منه. كما يجب عليه أن لا يقبل رواية غيره إلا بعد
التأكد من صحته بأن راويه حفظه حفظاً تاماً، ورواه من غير خطأ أو زيادة أو
تحريف أو تعديل. وهذا هو أساس النقد، وأصل الجرح والتعديل، فإنما هو تثبت
المحدث في قبول الرواية بالنظر إلى شخصية الراوي، وإلى مدى حفظه، فإذا تبين
له أنه عادل ضابط صرح بذلك، وهو التعديل، وإذا تبين له أنه مخطئ أو واهم
أو كاذب في روايته صرح بذلك، وهو الجرح. فالسنة المطهرة توجهنا إلى ضرورة
التشدد والتثبت، وإلى ضرورة التصريح بالحكم جرحاً أو تعديلاً.
وإلى جانب ذلك كله، سن النبي r لأمته الحكم على الرجال وإظهار
معايبهم أو محاسنهم عند الضرورة، حيث صرح النبي r بمعايب بعض الناس وجرحهم
تحذيراً منهم، كما صرح بتعديل آخرين حثاً للمسلمين للأخذ منهم. فإنه رغم
أن مجتمعه كان مجتمع النزاهة والعدالة والثقة، فإن النبي r صرح في بعض
الأحيان بالجرح والتعديل، حيث نجد في السنة المطهرة نماذج من نقد الرجال
بجرحهم وبيان معايبهم، أو بمدحهم والثناء عليهم[86].
ولا يخفى أنه لم يوجد الضعفاء والمجروحون في أصحابه r والمجتمع المحيط به،
بل لم يوجد الكذب والغش في زمنه إلا نادراً، فندر الجرح والنقد. ولكن رسول
الله r قد شرع للمسلمين نقد الرجال والحكم عليهم وإيضاحه للمجتمع، وأسس
لهم أسسها وأصولها،
وانطلاقاً من التوجيهات النبوية السابقة كان الصحابة في عصره
وفيما بعد حريصين على التأكد من صحة الحديث وكمال ضبط الراوي له. وكان من
أهم أسسهم في ذلك هو المعارضة والمقابلة. حيث كانوا يعرضون الخبر على
المروي عنه، أو على الرواة الآخرين. ففي عهد النبي r كانوا إذا شكوا في ضبط
الراوي للخبر أو في خطئه في النقل والرواية عرضوا الرواية على النبي r،
للتأكد من صحتها. نحد في السنة المطهرة نماذج من ذلك. فهذا أبو هريرة يخبر
عمر بن الخطاب بحديث فيستغربه عمر وكأنه يخشى أن يكون أبو هريرة لم يضبط
الخبر ضبطاً تاماً، فيأتي إلى رسول الله r ويعرض الخبر عليه ليتأكد من صحته[87]. وفي حجة الوداع أخبرت فاطمة علياً بخبر فجاء إلي النبي r فعرضه عليه ليتأكد من صحة ما أخبرت به[88]. وأبي بن كعب يخبر أبا الدرداء بخبر فيأتي إلى النبي r فيسأله عنه ليتأكد من صحته[89].
وهكذا نجد في السنة نماذج عديدة لهذا النوع من المعارضة والمقابلة
والتثبت، وهو من أهم الخطوات في نقد الخبر، والتثبت من صحته، ومن خلاله
يتبين ضبط الراوي وعدالته من خطئه أو كذبه.
وبعد وفاة النبي r كان الصحابة يعرضون الحديث على الرواة الآخرين للتأكد من صحة ضبط الراوي للخبر[90].
وربما عرضوا رواية الراوي الواحد في الأزمنة المختلفة بعضها على بعض،
للتأكد من كمال ضبطه، فإذا رأوا أنه حديث بحديث في عام، ثم بعد عام أو أكثر
إذا سئل عن ذلك الحديث رواه بلفظ دون أي زيادة أو نقص عرفوا أنه كامل
الضبط فقبلوا روايته[91].
ولما بدأ التابعيون يروون الحديث حرص الصحابة، ومن في عصرهم
من كبار التابعيين في التزام الإسناد، والنظر إلى عدالة الراوي وضبطه. فإذا
تبين لهم أن الراوي عنده خلل في العدالة أو ضعف في الضبط تركوا روايته،
ولم يلتفتوا إليه. كما أنهم حرصوا تعديل من تأكدوا من عدالته[92]، وعلى جرح من عرفوا منهم هذا الخلل أو الضعف بالتكذيب، أو التخطئة، أو النسيان[93]، إكمالاً للنصيحة، وذباً عن سنة المصطفى r.
واستمرت الجهود في هذا المجال واتسعت مع اتساع رواية الحديث.
وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ العلماء يدونون أحكام الجرح والتعديل
الصادرة من علماء الفن في شأن الرواة في مؤلفاتهم في الرجال. وقد كانت كتب
الجرح والتعديل في الأصل عبارة عن كتب الرجال يذكر فيها مؤلفوها الأحكام
التضعيفية أو التوثيقية على الراوي المترجم. فظهرت أولاً مؤلفات تسمى
“التاريخ” أو “الطبقات” تجمع تراجم المجروحين والمعدلين معاً. ثم ظهرت
مؤلفات خاصة بالضعفاء والمجروحين من الرواة. ظهرت هذان القسمان من كتب
الجرح والتعديل في نهاية القرن الثاني، واستمر التأليف فيهما في القرون
التالية. ومنذ القرن الثالث ظهرت مؤلفات خاصة بالمعدلين باسم “الثقات”.
واستمر التأليف في هذه الأنواع الثلاثة من كتب الرجال المشتملة على أحكام
الجرح والتعديل، مع تفنن العلماء في التأليف، حيث ألف بعضهم في رجال بلاد
مخصوصة، أو كتب مخصوصة، أو في الكنى والأسماء، أو الألقاب، أو نحو ذلك[94].
فالتأليف في ضعفاء الرجال والمجروحين من الرواة، وبيان مراتب
ضعفهم ومواطن خطئهم ووهمهم هو من أهم ما عني به علماء الجرح والتعديل
وألفوا فيه، منذ القرن الثاني الهجري إلى الثامن الهجري. فما السبب الذي
جعل العلماء ينوه بكتاب ابن عدي خاصة، ويجعلونه من أهم ما ألف في هذا الفن
وأنفعه؟ وما ميزة كتاب ابن عدي، وما مكانته، وما منهجه وخصائصه؟ لعله قد آن
لنا الأوان أن نبدأ رحلتنا في هذا الكتاب القيم.
كتاب “الكامل في ضعفاء الرجال” لابن عدي: منهجه ومكانته في علم الجرح والتعديل
أمر النبي r أمته بحفظ سنته، ونقلها كما سمعت، والتثبت فيها
وحذرهم من الكذب والكذابين، فعني المسلمون منذ عصر الصحابة رضوان الله
عليهم أجمعين بالحفظ على أسانيد أحاديث النبي r والنظر في رواتها وبيان
أحوالهم في الضبط والعدالة، لتعتمد الأمة على أخبار الثقات، وتتجنب الوقوع
في مهالك الكذب على النبي r. ومنذ نهاية القرن الثاني بدأ العلماء النقاد
في التأليف في رواة الأخبار وبيان أحوالهم جرحاً وتعديلاً، فمنهم من كتب في
المجروحين خاصة، ومنهم من ألف في الثقات خاصة، ومنهم من جمع في مؤلفاته
الضعفاء والموثوقين، ومن أهم من ألف في المجروحين هو هذا الكتاب. فقد أعجب
أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل فيما بعد بكتاب ابن عدي ونوهوا بعلو
مكانته وتعدد خصائصه وميزاته. قال الإمام أبو يعلى الخليلي: “له تصنيف في
الضعفاء ما صنف أحد مثله”[95].
وقال الإمام ابن كثير: “أبو أحمد بن عدي: الحافظ الكبير المفيد الإمام
العالم الجوال النقال الرحال، له كتاب الكامل في الجرح والتعديل، لم يسبق
إلى مثله، ولا يلحق في شكله”[96].
وبين العلماء أن كتاب “الكامل” لابن عدي قد تميز بالشمول،
والتفصيل والاعتدال. فأما الشمول فقد قال الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن
عثمان الذهبي (748هـ) في أثناء ذكر الكتب الخاصة بالضعفاء: “ولأبي أحمد بن
عدي كتاب الكامل، وهو أكمل الكتب وأجلها في ذلك”[97].
وقال الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (902هـ) عند ذكر
المؤلفات في المجروحين والضعفاء: “ولأبي أحمد بن عدي في كامله، وهو أكمل
الكتب المصنفة قبله وأجلها، ولكنه توسع لذكره كل من تكلم فيه، وإن كان ثقة”[98].
وأما الاعتدال فقال الذهبي: “قلت: يذكر في “الكامل” كل من تُكُلِّمَ فيه
بأدنى شيء، ولو كان من رجال الصحيحين، ولكنه ينتصر له إذا أمكن، ويروى في
الترجمة حديثاً أو أحاديث مما استُنْكِر للرجل. وهو منصف في الرجال بحسب
اجتهاده”[99]؟
وأحاول أنا أن أوضح هذه الخصائص والميزات لكتاب “الكامل” لابن عدي من خلال شرح منهجه وأسلوبه.
1) منهجه في عرض موضوع الكتاب:
بدأ المؤلف كتابه بخطبة، بين فيها منهجه قائلاً: “وذاكر في
كتابي هذا كل من ذكر بضرب من الضعف، ومن اختلف فيهم، فجرحه البعض وعدله
البعض الآخر، ومرجح قول أحدهما مبلغ علمي، من غير محاباة؛ فلعل من قَبَّحَ
أمرَه أو حسَّنَه تحامل عليه أو مال إليه، وذاكر لكل رجل منهم مما رواه ما
يُضَعَّفُ من أجله، أو يلحقه بروايته له اسم الضعف؛ لحاجة الناس إليها؛
لأقربه على الناظر فيه. وصنفته على حروف المعجم؛ ليكون أسهل على من طلب
راوياً منهم، ولا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلا من هو ثقة أو صدوق،
وإن كان ينسب إلى هوى، وهو فيه متأول”[100]
ثم بدأ بمقدمة موسعة قبل أن يبدأ في ذكر الرجال والأحكام
عليهم. وتشتمل هذه المقدمة على ثلاثين باباً ذكر فيها المؤلف الأحاديث
النبوية الدالة على التثبت في الرواية وعظم جرم من يكذب على الرسول r،
وتحذيره r أمته من الكذابين في آخر الزمان، وآثار الصحابة التي تدل على
تحرجهم الشديد وتثبتهم الكبير في رواية الحديث مخافة الخطأ أو الزلة،
وإنكارهم على من يتساهل في ذلك. كما ذكر في بعض الأبواب الأحاديث والآثار
عن كتابة الحديث وعن التلقين والتدليس وغير ذلك من مسائل الرواية. ثم ذكر
بعد هذه الأبواب في صفحات كثيرة الصحابة والتابعين وأتباعهم وغيرهم من
العلماء الذين تكلموا في الرجال إلى عصره، وروى الأخبار عنهم فيما يختص
بهذا الشأن. كما ذكر ما يعرف من الصالحين من الكذب ووضع الحديث، ونحو ذلك
من المباحث المفيدة في مسائل الجرح و النقد[101].
ثم شرع المصنف في ذكر أسامي المجروحين ومناقشة مروياتهم
وأقوال الأئمة فيهم، مرتباً أسماءهم على حروف المعجم. وفي نهاية الكتاب-
ذكر فصلاً للرواة الذين عرفوا بالكنى، ولم تشتهر أسماؤهم فقال: “وممن غلبت
عليه الكنية ولم يسم، وعرف بكنيته وإن سموا لم تصح أسماؤهم”[102]. ثم ذكر بعض الرواة الذين اشتهروا بالنسبة فقال: “وممن نسب إلى قبيلة أو نسب إلى مولى، ولم يذكر باسم ولا كنية”[103]. وترجم الإمام ابن عدي في كتابه هذا لأكثر من 2200 راوٍ، وبين الحكم عليهم جرحاً أو توثيقاً.
2) منهجه في تربيب أسماء الرجال:
ذكر المؤلف في المقدمة أنه يعرض أسماء الرجال حسب ترتيب حروف
المعجم فقال: “وصنفته على حروف المعجم”. وقد التزم الترتيب المعجمي في
الحرف الأول فقط. فبدأ بحرف الألف فقال: “من ابتداء أساميهم ألفٌ ممن نسب
إلى ضرب من الضعف”[104]،
وبعد ما انتهى من ذكر المجروحين الذين تبدأ أسماؤهم بالألف بدأ بحرف الباء
فقال: “مَنْ ابتداء أساميهم باءٌ ممن ينسب إلى ضرب من الضعف”[105].
وهكذا إلى حرف الياء. ولم يلتزم الترتيب فيما سوى الحرف الأول، وخلط خلطاً
عجيباً في الحروف التالية للاسم الأول، فذكر أحمد قبل إبراهيم، وذكر أيوب
قبل أبان[106]. وذكر من أسماؤهم بسر وبشر وبشير، وبكير، وأبو بكر وبكار قبل من أسماؤهم بركة وبراء وبحر،[107]. وذكر بهراً، ثم باذام، ثم بهية ثم بقية[108]. وكذلك أخر “الحجاج” عن “الحكم”، وقدم حماداً على الحسن، قدم الخليل على خثيم[109]،
وهكذا في سائر الأسامي، لم يراع شيئاً من الترتيب في غير الحرف الأول. كما
لم يراع الترتيب في الاسم الثاني أصلاً. وهذا الخلل يتعب الباحث في العثور
على ترجمة الراوي المذكور في هذا الكتاب.
3) أسسه في اختيار الضعيف لذكره في كتابه:
أ) من ذَكَرَهُ أحدٌ من النقاد السابقين بضرب من الضعف وإن كان ثقة في نفسه:
رأينا أن ابن عدي قد صرح بأنه يذكر كل من ذُكِرَ بضربٍ من
الضعف. وظاهره أنه يذكر كل من ذكره أحد من النقاد السابقين بشيء من الجرح،
وإن كان ثقة في نفسه. وقد التزم بهذا الأصل في كتابه، فذكر المجروحين، وذكر
عدداً من الثقات لكونهم قد جرحوا بغير حق، فابن عدي يذكرهم، ويذكر ما قيل
فيهم من جروح، ثم يبين رأيه، وربما يدافع عنهم. ومن ذلك أنه ذكر في كتابه
ضمن المجروحين إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري
المدني، وهو من ثقات المحدثين، ممن أخرج لهم البخاري ومسلم وغيرهم من
الأئمة، وإنما ذكره في كتابه لأنه نقل عن بعض العلماء مثل شريك بن عبد
الله، ويحيى بن سعيد القطان ما يوحي بتضعيفه. ثم دافع عنه وقال: “ولإبراهيم
بن سعد أحاديث صالحة مستقيمة عن الزهري وعن غيره، ولم يتخلف أحد عن
الكتابة عنه بالكوفة والبصرة، وبغداد، وهو من ثقات المسلمين”[110].
وذكر حُمَيد بن هلال، وهو محدث ثقة، من رجال الصحيحين، ذكره لأن يحيى بن
سعيد القطان قال: كان محمد بن سيرين لا يرضى حميد بن هلال. ثم دافع عنه
قائلاً: “ولحميد بن هلال أحاديث كثيرة، وقد حدث عنه الناس والأئمة،
وأحاديثه مستقيمة، والذي حكاه يحيى القطان أن محمد بن سيرين لا يرضاه، لا
أدري ما وجهه، فلعله كان لا يرضاه في معنى آخر ليس الحديث، فأما الحديث
فإنه لا بأس به وبرواياته”[111].
وفي بعض الأحيان تراه يصرح بأنه لولا شرطه لذكر كل من جرحه
أحد لم يذكر هذا الراوي، مثل قوله: “أحمد بن صالح من أجلة الناس … ولولا
أني شرطت في كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تكلم فيه متكلم لكنت أُجِلُّ أحمد
بن صالح أن أذكره”[112].
وفي “أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة، وقال: “كان صاحب معرفة
وحفظ، ومقدم في هذه الصناعة إلا أني رأيت مشايخ بغداد مسيئين الثناء عليه
…. وكان مقدماً في الشيعة، وفي هذه الصنعة (أي في علم الحديث) أيضا، ولم
أجد بداً من ذكره؛ لأني شرطت في أول كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تكلم فيه
متكلم، ولا أحابي، ولولا ذاك لم أذكره للذي كان فيه من الفضل والمعرفة”[113]. وهكذا في مواضع عديدة.
ب) من اطلع ابن عدي على ضعفه ووهمه من خلال النظر في رواياته:
وإلى جانب أولئك الذين ذكرهم النقاد بضرب من الضعف ترى ابن
عدي يذكر جملة من الرواة لم يذكرهم أحد قبله بشيء من الضعف، وإنما يضعفه هو
لما في مروياتهم من الأباطيل. وهو في ذلك يصرح أحيانا بأن أحداً لم يسبقه
إلى جرح هذا الراوي. ومن ذلك أنه ترجم لبشر بن إبراهيم الأنصاري، وقال:
منكر الحديث عن الثقات والأئمة، ثم ساق جملة من أحاديثه مما ينكر عليه
لتفرده بها سنداً أو متناً، ثم صرح بأن السابقين قد غفلوا عنه فقال: “وبشر
بن إبراهيم هذا لا أدري كيف غفل من تكلم في الرجال عنه، فإني لم أجد لهم
فيه كلاماً، وهو بين الضعف جداً، ورواياته التي يرويها عمن يروي غير
محفوظة، وهو عندي ممن يضع الحديث على الثقات… وفي مقدار ما ذكرته يتبين
ضعفه، وما ذكرته عنه عن الأوزاعي ….وغيرهم كل ذلك بواطيل وضعها عليهم،
وكذلك سائر أحاديثه التي لم أذكرها، موضوعات عن كل من روى عنهم”[114].
وقد صرح ابن عدي في بعض المواضع أن مراده من قوله: “من ذُكِرَ
بضرب من الضعف” من عُرِفَ بضعف سواء ضعفه أحد قبله أو تبين له ضعفه. فقد
ذكر عبد الله بن عصمة النصيبي، وساق بعض مناكيره، وقال: “عبد الله بن عصمة
رأيت له أحاديث أنكرها، وليس بالكثير، وإنما ذكرته لأني شرطت في أول كتابي
أني أذكر كل من أنكر حديثه أو يروي حديثاً يضعف من أجله، ولم أر للمتقدمين
فيه كلاماً”[115].
وذكر عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير بن العوام المدني، ساق
جملة من أحاديثه التي تفرد بها سنداً أو متناً، وبين ما فيها من المخالفات،
ثم قال: “ولعبد الله بن محمد بن عروة غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه
عامتها مما لا يتابعه الثقات عليه، ولم أجد من المتقدمين فيه كلاماً، ولم
أجد بداً من ذكره لما رأيت من أحاديثه أنها غير محفوظة لما شرطت في أول
الكتاب”[116].
وذكر عبد الله بن هارون البجلي الكوفي، ساق له ثلاثة أحاديث،
ثم قال: “ولم أر لعبد الله بن هارون هذا غير هذه الأحاديث التي ذكرتها،
ولعل له غيرها، وفي هذه الأحاديث التي ذكرتها بعض الإنكار، وقد شرطت في
كتابي هذا أني أذكر كل من في رواياته اضطراب، وفي متونه مناكير، وأذكره
وأبين أمره، ولم أر للمتقدمين في عبد الله كلاماً فأذكره”[117]. وهكذا في عدد كبير من الرواة، كما سيأتي.
ومن هنا يتضح أن أساس ابن عدي في اختيار “الضعيف” لذكره في
كتابه أن يكون أحد قد جرحه بشيء، أو يكون هو الذي اطلع على وجه من وجوه
الضعف عنده. وقد سار ابن عدي على هذا الأساس في غالب الأمر، ولم يخرج منه،
إلا في بعض الأحيان، حيث يتضح تجاوزه عن أساسه هذا في ثلاثة أمور تؤخذ
عليه:
المأخذ الأول: إيراده أسماء ثقات دون أن ينقل فيهم جرحاً، أو يبين لهم ضعفاً:
أول ما يؤخذ عليه في اختيار الراوي لذكره ضمن الضعفاء أنه
يورد أسماء عدد من الثقات في كتابه، لم يذكر فيهم أن أحداً سبقه بجرح، ولا
هو يبين فيه ضعفاً أو جرحاً. ومن أمثلة ذلك أنه ذكر أيمن بن نابل، أبا
عمران المكي، وهو من رجال صحيح البخاري، ونقل عن يحيى وسفيان الثوري أنه
ثقة، ولم ينقل عن أحد تضعيفه بشيء، وإنما ذكر أنه كان حبشيا مكفوفاً طويلاً
ذا مشافر، كانت في كلامه لكنة أي عجمة. وساق جملة من أحاديثه وقال: “وهو
لا بأس به فيما يرويه … ولم أر أحداً ضعفه ممن تكلم في الرجال، وأرجو أن
أحاديثه لا بأس بها، صالحة”[118].
ولا يجد القارئ بداً من أن يسأل ابن عدي: إذا كان أحد لم يضعفه، ولم تذكر
له حديثاً منكراً، وكان صالح الحديث، فلم ذكرته في كتابك في جملة الضعفاء؟
وممن ذكره من الثقات، من رجال الصحيحين، أو أحدهما، ولم ينقل
فيهم جروحاً عن السابقين، ولم يجرحه هو، ولم يصرح بمبرره في ذكره الجراح بن
مليح بن عدي بن فرس أبو وكيع الرؤاسي، وحُميد الطويل، والحسن بن ذكوان،
وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي المكي، وسعيد بن أبي سعيد المقبري[119] وجماعة غيرهم.
المأخذ الثاني: إيراده أسماء بعض الصحابة أو كبار التابعين الأئمة:
والأمر الثاني أنه ذكر بعض الصحابة أو التابعين الأئمة لأن
بعض العلماء السابقين ذكروهم في مؤلفاتهم لبيان أن في الإسناد إليهم نظراً،
فقصدهم من ذكرهم هو بيان حال الإسناد إليهم، لا جرحهم، فكان ينبغي لابن
عدي أن لا يوردهم ضمن الضعفاء أو المجروحين. فممن ذكرهم في الضعفاء الصحابي
ذو اليدين، لأن البخاري قال: “لا يصح حديثه”. ثم بين أن مراد البخاري أن
حديث ذي اليدين في السهو قد روي عن أبي هريرة في الصحيح، وفيه ذكر سهو
النبي r في الصلاة وتنبيه ذي اليدين له. وروي من طريق ضعيف عن ذي اليدين
نفسه بأنه حدث الواقعة. ومراد البخاري أن هذا السند لا يصح؛ لأن مدار السند
على معدي بن سليمان أبي سليمان، ومعدي هذا منكر الحديث. فكان ينبغي لابن
عدي أن يذكر معدياً هذا، ولا يذكر “ذا اليدين”، ولكنه عكس، فذكر ذا اليدين،
ولم يذكر معدي بن سلميان في كتابه.
ومن الصحابة الذين ذكرهم ضمن الضعفاء الصحابي خارجة بن حذافة
العدوي؛ وهو من الصحابة الذين رووا عن النبي r حديثاً واحداً فقط. وإنما
ذكره ابن عدي لأن البخاري قال: “لا يعرف لإسناده سماع بعضهم من بعض”، يعني
أن الحديث الذي يروى عن هذا الصحابي إسناده فيه انقطاع، وهذا لا يعني جرح
الصحابي بحال، وكان ابن عدي في غنى عن أن يذكره في كتابه.
ومن ذلك أنه ذكر “أويس بن عامر القرني” لأن البخاري قال: “في
إسناده نظر فيما يرويه”. ثم قال: “وليس لأويس من الروايات شيء، وإنما له
حكايات ونتف وأخبار في زهده….وليس له من الأحاديث إلا القليل، فلا يتهيأ أن
يحكم عليه بالضعف، بل هو صدوق ثقة في مقدار ما يروى عنه”[120]. وكان الأولى به أن لا يذكره وأمثاله في الضعفاء، لأن البخاري إنما أراد أن الأسانيد إلى أويس فيها نظر، لا أن أويساً نفسه فيه نظر.
المأخذ الثالث: تركه ذكر بعض الرواة الضعفاء:
والأمر الثالث الذي يؤخذ عليه أنه ترك بعض المجروحين فلم
يترجم لهم. وذلك أنك تراه يذكر بعض الرواة بالجرح أو التضعيف في أثناء
حديثه عن رواة آخرين، ثم لا يترجم له، ولا يفصل القول فيه، رغم أن ما ادعاه
من المقدمة يفرض له أن يذكر في كتابه كل من ذكر بشيء من الجرح، وأنه لا
يترك إلا الثقات. وقد رأينا مثال ذلك عند حديثنا عن الصحابي “ذي اليدين”،
فقد رأينا أنه ذكر هذا الصحابي، ولم يذكر “معدي بن سليمان” الذي صرح بأنه
منكر الحديث. ومن أمثلة ذلك أنه عند حديثه عن أحمد بن ميسرة أبي صالح ذكر
راوياً اسمه “إبراهيم بن أبي يحيى”، ووصفه بالضعف[121]، ثم إنني لم أجد لإبراهيم هذا ذكراً في كتابه.
وفي ترجمة حسين بن الحسن الأشقر ساق بعض الأحاديث المنكرة،
منها حديث منكر المتن في ذم الصحابي أبي موسى الأشعري رواه محمد بن علي بن
خلف العطار عن حسين الأشقر. وقال ابن عدي: “وهذا الحديث يروى من هذا
الطريق، يرويه هذا الشيخ محمد بن علي بن خلف، ومحمد بن علي هذا عنده من هذا
الضرب عجائب، وهو منكر الحديث، والبلاء فيه عندي من محمد بن علي بن خلف”[122]. رغم هذا الكلام لم يترجم ابن عدي لمحمد بن علي هذا.
ممن ترجم له ابن عدي من الضعفاء خالد بن يزيد العدوي، وذكر له
بعض الأحاديث المنكرة، وفي أثناء ذلك قال: “… يرويه خالد بن يزيد عن عمر
بن صهبان عنه، وأخاف أن يكون البلاء من عمر بن صهبان، لأن عمر أضعف من
خالد”[123].
هكذا يقول، ولكنه لا يترجم لعمر بن صبهان هذا، ويترجم لخالد الذي يصرح
بأنه أقل ضعفاً. ومثله أنه نقل عن الأعمش حديثاً عن طريق “إسماعيل الخياط”،
وصرح بأنه تفرد بروايته مرفوعاً موصولاً، والمشهور عن الأعمش أنه رواه
موقوفاً على ابن مسعود قوله[124].
وهذا يقتضي أنه يذكر “إسماعيل الخياط” ضمن الضعفاء حيث يتفرد برواية
المناكير. وقد ذكر ابن الجوزي أن إسماعيل هذا قد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى،
والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم من أئمة النقد قبل ابن عدي[125]. ورغم ذلك كله لم أجد ابن عدي يترجم لهذا الراوي
4) أسسه في الحكم على الرجال:
حكم العلماء النقاد على الراوي جرحاً أو تعديلاً لم يكن أمراً
عشوائياً لا يخضع لقانون أو ضوابط، ولا هوىً ولا فوضى، بل كانوا يسلكون في
ذلك مسلكاً منضبطاً ويعتمدون على قوانين ثابتة. فالراوي إنما ينظر في
الحكم عليه إلى أمرين أساسين، وهما العدالة والضبط؛ إذ عليهما مدار صحة
الحديث. فأما عدالة الراوي فكان العلماء النقاد يتجولون في الآفاق ويتحملون
مشاق الأسفار من أجل التعرف على تراجم الرواة وأقوال أهل بلده في أعماله
وأخلاقه ومدى تمسكه بأهداب الدين، ومن خلاله يتبين لهم عدالته من فسقه.
وأما الضبط فكان النقاد يعتمدون على أساس جمع أحاديث الشخص وموازنتها
بروايات غيره لمعرفة ضبطه. وذلك أن علماء الحديث على قسمين. قسم يعتني
بالرواية فقط، فتراه يذهب إلى بعض المشايخ فيروي عنه جملة من الأحاديث
قليلة أو كثيرة، ولا يهمه غير السماع والرواية. والقسم الثاني من المحدثين
هم النقاد، وكانوا يجوبون الآفاق ويقطعون المفاوز في البحث عن كل من يروي
حديثاً أو أكثر، فيسمع منه الحديث أو الأحاديث بأسانيدها، ويكتبها عنده في
الدفاتر، ثم يروي عن غيره من الرواة الذين يروون هذه الأحاديث وغيرها من
الشيخ الذي يروي عنه هذا الراوي وعن شيوخ آخرين. فيوازن مرويات هذا الراوي
مع مرويات غيره، فمن خلال هذه الموازنة وتلك المقارنة الدقيقة يتبين لهم
مدى حفظ الراوي لمروياته. ومن هنا ترى العالم الناقد يحفظ مئات الآلاف من
الأحاديث بأسانيدها فيوازن بين المرويات ليتضح لديه الضابط والواهم والسارق
والحافظ.
وقد اعتمد ابن عدي في الحكم على الرجال على ثلاثة أصول: أولاً
على آراء العلماء السابقين، ولا سيما الأئمة النقاد في عدالته وفي ضبطه،
ثانيا: على النظر إلى من روى عن هذا الراوي المتكلم فيه، ثالثا: على النظر
في أحاديثه لمعرفة ضبطه من وهمه من خلال الموازنة والمقارنة والمعارضة.
1- الأساس الأول لابن عدي في الحكم على الرجال: النظر في آراء النقاد السابقين:
فأما الأصل الأول فقد سبق أنه أساس ابن عدي في ذكر الرواة في
هذا الكتاب. فمن تكلم فيه أحد قبله بشيء من الجرح ذكره في هذا الكتاب.
فتراه في كتابه يذكر اسم الراوي ونسبه، ثم يبدأ بنقل آراء السابقين فيه
جرحاً وتعديلاً. ثم يسوق بعض أحاديثه، وثم يخلص إلى الحكم عليه يوافق فيه
من سبقه، أو يخالفهم، أو يرجح رأيا من آراء السابقين، أو يصدر حكماً وسطاً.
فالغالب الأعم أن ابن عدي يورد في كل راوٍ أقوال النقاد السابقين. وفي
أحيان لم يورد في الراوي آراء السابقين. وذلك إما لأنه لم يجرحه أحد قبله،
كما رأينا قبل قليل، وإما اختصاراً أو تغافلاً. ومن ذلك أنه ذكر ثابت بن
محمد الزاهد الكوفي، ونقل عن بعض العلماء الثناء عليه، ولم ينقل عن أحد
تضعيفاً أو جرحاً. وإنما ساق بعض أحاديثه التي تفرد بها، ثم قال: “ثابت
الزاهد هذا هو عندي ممن لا يتعمد الكذب، ولعله يخطئ… وفي أحاديثه ما يشتبه
عليه فيرويه حسب ما يستحسنه، والزهاد والصالحون كثيراً ما يشتبه عليهم
فيروونها على حسن نياتهم”[126]. وظاهر صنيعه أن السابقين لم يتكلموا فيه. والواقع أنه قد سبقه البخاري فذكره في الضعفاء، رغم أنه نفسه حدث عنه في صحيحه[127]. فلعله لم يشر إلى صنيع البخاري اختصاراً أو تساهلاً أو تغافلاً.
ومثله بشار بن قيراط النيسابوري، فقد ذكره ضمن المجروحين، وصرح بأنه ضعيف إلا أنه لم ينقل عن السابقين شيئاً[128]. وقد ذكر الذهبي أن أبا زرعة وأبا حاتم قد سبقاه في جرحه[129]. فالظاهر أن ابن عدي لا يلتزم بنقل أحكام السابقين وآرائهم. فقد ينقل بعضها في بعض الرواة، وقد يكتفي بذكر حكمه في بعضهم الآخر.
وسبق أن الغالب أن ابن عدي يذكر آراء السابقين أولاً، ويذكر
رأيه في آخر الترجمة بعد عرض أحاديث الراوي، إلا أنه في بعض الرواة يصرح
بجرحه له أولاً، ثم ينقل آراء السابقين. ومن ذلك أنه قال: “الحارث بن سريج
النقال ضعيف متروك الحديث”[130].
ثم نقل عن ابن عيينة تضعيفه. وساق حديثاً له منكراً، وبين أنه يسرق
الحديث. ومثله أنه ذكر حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك بن أنس فبعد أن ذكر اسمه
وكنيته قال: “يضع الحديث”، ثم نقل أقوال العلماء فيه وساق جملة من
أحاديثه، ثم أعاد رأيه فيه[131].
3- الأساس الثاني لابن عدي في الحكم على الرجال: النظر إلى من روى عن هذا الراوي من الثقات والأئمة:
وأما الأساس الثاني في الحكم على الراوي- وهو النظر إلى من
روى عنه- فقد تمسك به واعتمد عليه في كثير من الأحيان، ولا سيما في الدفاع
عنه وفي إثبات عدالته وضبطه، والرد على من جرحه. فإنه إذا وجد أن بعض أئمة
الحديث قد رووا عن شخص ما فإنه عد ذلك من دلائل قوته عندهم. وإذا وجد
الأئمة النقاد المعاصرين له قد تركوه ولم يرووا عنه شيئاً فإن ذلك عنده من
دلائل ضعفه وجرحه. ففي عمر بن عبد الله مولى غفرة بنت رباح أخت بلال بن
رباح مولى أبي بكر نقل عن النسائي تضعيفه، وعن يحيى بن معين أنه يكتب
حديثه، ثم ساق بعض أحاديثه وقال: “وعمر مولى غفرة ليس هو بكثير الحديث، وقد
روى عنه الثقات، وهو ممن يكتب حديثه”[132].
وفي عمرو بن أبي عمرو ميسيرة نقل تضعيف النقاد له. قال يحيى
بن معين: ليس بالقوي، وقال: كان مالك يروي عن عمرو بن أبي عمرو وكان
يستضعفه، وضعفه النسائي وغيره. وقال أحمد بن حبنل وغيره: ليس به بأس. قال
ابن عدي: “عمرو بن أبي عمرو له أحاديث عن أنس غير ما ذكرت، وروى عنه مالك،
وهو عندي لا بأس به لأن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة أو صدوق”[133].
وفي عفان بن مسلم أبو عثمان الصغار نقل عن جماعة تضعيفه. ولكن ابن عدي مال
إلى توثيقه لأن أحمد بن حنبل قد أكثر من الرواية عنه، وأحمد بن صالح
المصري قد سافر إلى بغداد لسماع حديثه، فدل على أنهما كانا يعظمانه ويثقان
به. ثم قال: “وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما فيه ينسب إلى
الضعف… ولا أعلم لعفان إلا أحاديث عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد وعن غيرهما
أحاديث مراسيل فوصلها، وأحاديث موقوفة فرفعها، وهذا مما لا يتنقصه؛ لأن
الثقة وإن كان ثقة قد يهم في الشيء بعد الشيء..”[134].
وسالم بن أبي حفصة العجلي، أبو يونس ضعفه النسائي، ويحيى بن
سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ووثقه يحيى بن معين. ومال ابن عدي إلى
قبوله اعتماداً على أن جماعة من الثقات قد رووا عنه فقال:”وسالم له أحاديث،
وقد روى عنه الثوري وابن عيينة وابن فضيل وغيرهما، وعامة ما يرويه في
فضائل أهل البيت، وهو عندي من الغالين في متشيعي أهل الكوفة، وإنما عيب
عليه الغلو فيه، فأما أحاديثه فأرجو أنه لا بأس به”[135].
وفي ترجمة الحسن بن ذكوان نقل عن يحيى بن سعيد القطان وعبد
الرحمن بن مهدي ما يدل على أنهما ضعفاه، وذكر أن يحيى قد روى عنه بعض
الأحرف رغم أنه لم يكن عنده بالقوي. ثم ساق بعض أحاديثه وقال: “وللحسن بن
ذكوان أحاديث غير ما ذكرت، وليست بالكثير، وفي بعض ما ذكرت لا يرويه غيره،
على أن يحيى القطان وابن المبارك قد رويا عنه كما ذكرته، وناهيك للحسن بن
ذكوان من الجلالة أن يرويا عنه، وأرجو أنه لا بأس به”[136].
هكذا ترى ابن عدي يعتبر رواية الثقات والأئمة عن راو من
الرواة توثيقاً منهم لهذا الراوي، وإن لم يكونوا صرحوا بتوثيقه، ومن هنا
يعتمد على ذلك لتوثيق الراوي وتقوية أمره. والغالب أن ابن عدي يعتمد على
هذا الأساس إلى جانب الأساس الثالث للحكم على الراوي. ومن أمثلة ذلك أنه
ذكر محمد بن جابر أبا عبد الله اليمامي (170هـ)، ونقل فيه جروحاً وتضعيفا
على النقاد، ونقل عن شيخه عمرو بن علي الفلاس أنه صدوق كثير الوهم متروك
الحديث. وساق جملة من أحاديثه، ثم قال: “ولمحمد بن جابر من الحديث غير ما
ذكرت، وعند إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن جابر كتاب أحاديث صالحة…. وقد
روى عن محمد بن جابر كما ذكرت من الكبار أيوب وابن عون وهشام بن حسان
والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم ممن ذكرتهم، ولولا أن محمد بن جابر في ذلك
المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم، وقد خالفهم في أحاديث، ومع ما
تكلم فيه من تكلم يكتب حديثه”[137].
فتراه يخالف جمهور النقاد، ويذهب إلى قبول روايته اعتماداً على أن مثل
هؤلاء الأئمة رووا عنه، إلى جانب ما تبين له بالنظر إلى رواياته حيث وجد أن
له “كتاب أحاديث صالحة”. وسنرى فيما بعد نماذج من هذا القبيل إن شاء الله
تعالى.
2- الأساس الثالث لابن عدي في الحكم على الرجال: النظر في رواياته ومعارضتها وموازنتها بروايات الآخرين:
وأما الأساس الثالث فهو النظر في روايات الراوي ومعارضة
رواياته ومقابلتها وموازنتها بروايات غيره من المحدثين لمعرفة مدى ضبطه.
وهذا هو أهم الأصول وأقوم الأسس لدى النقاد في جرح الرواة وتعديلهم منذ
القرن الأول الهجري. وهو الأصل الأصيل والأساس المتين الذي اعتمد عليه ابن
عدي في أحكامه. ولعلنا نذكر في هذا المقام أنموذجاً لهذه المعارضة حتى يتضح
للقارئ المراد منها، وتتبين له طريقتها.
فمن المجروحين الذين ذكرهم ابن عدي في كتابه هذا يحيى بن
اليمان العجلي الكوفي (ت 188هـ). وهو من مشهوري علماء الكوفة وعبادها، ومن
متقدمي أصحاب سفيان الثوري. ولكنه العلماء النقاد- منهم ابن عدي- مع
الاعتراف بفضله وزهده جرحوه وضعفوه في الحديث، فما السبب. والسبب أنهم
وجدوا من خلال المعارضة والمقابلة أن كثيراً من الأحاديث التي يرويها ابن
يمان إفرادات ومناكير، لا يتابعه عليها غيره من تلاميذ الثوري. ومن أمثلة
ذلك أنه روى حديثاً في شرب النبيذ أخرجه النسائي فقال: “أَخْبَرَنَا
الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى
بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ
أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ عَطِشَ النَّبِيُّ r حَوْلَ الْكَعْبَةِ
فَاسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ
فَقَالَ عَلَيَّ بِذَنُوبٍ مِنْ زَمْزَمَ فَصَبَّ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ
فَقَالَ رَجُلٌ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لا”[138].
وهذا الحديث قد ضعفه المحدثون، وذهبوا إلى أن الغلط فيه من يحيى بن
اليمان، حتى إن النسائي قال بعدما روى الحديث: “وَهَذَا خَبَرٌ ضَعِيفٌ
لأَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ
وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ لا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لِسُوءِ حِفْظِهِ
وَكَثْرَةِ خَطَئِهِ”.
ويوضح لنا ابن عدي من خلال المعارضة وجه الخطأ في هذا الحديث
ووجه الضعف في يحيى بن اليمان. وذلك أن سفيان الثوري أحد أئمة الحديث، له
تلاميذ كثيرون أخذوا عنه الحديث وعرفوا بملازمته. ولم يرو أحد منهم غير
يحيى بن اليمان هذا الحديث بهذا الإسناد عن سفيان. ولا يعقل أن سفيان لا
يحدث هذا الحديث إلا ليحيى، ويحرم غيره من التلاميذ من سماعه. فهذا يدل على
أن يحيى بن يمان أخطأ في رواية هذا الحديث، وهذا الخطأ أيضا يدرك
بالموازنة، فينظر هل روى هذا المتن غير يحيى من تلاميذ الثوري بسند غير هذا
السند، فيكون يحيى قد أخطأ في السند؟ أو رووا بهذا السند خبراً آخر فيكون
يحيى قد أخطأ فركب سنداً على متن؟ وبالبحث تبين أمران: أحدهما أن شرب
النبيذ قد روي عن أبي مسعود موقوفا عليه، رواه سفيان عن طريق خالد بن سعد.
وثانيهما أن المتن الذي ذكره يحيى بن يمان قد رواه تلاميذ الثوري الآخرون
بسند آخر. فتبين أن يحيى قد اختلط عليه الأمر.
فأما الأمر الأول: فقال ابن عدي: “ثنا الجنيدي ثنا البخاري
ثنا علي ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن خالد بن سعد عن
أبي مسعود أنه كان يشرب نبيذ الجر. قال منصور: ثم حدثني خالد بن سعد وقال:
الأعمش عن إبراهيم عن همام عن أبي مسعود”[139].
فتبين أن خبر شرب نبيذ الجر إنما صح عن أبي مسعود موقوفاً، لا عن النبي r.
ومن هنا قال الحافظ ابن حجر: “ورواه يحيى بن سعيد عن سفيان موقوفا، وهو
الصحيح”[140]
وأما الأمر الثاني فهذا عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي،
أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة مأمون أثبت الناس كتاباً في الثوري، ومن أخص
تلاميذه[141]،
وغيره من تلاميذ الثوري يروون هذا اللفظ عن الثوري بسند آخر، فيقولون: عن
سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن المطلب [بن أبي وداعة]: “أتي النبي r
بنبيذ”[142].
ومن خلال هذه المقابلة والمعارضة اتضح أن يحيى بن اليمان رغم
جلالته اختل عنده صفة الضبط، فلا يحفظ الحديث، بل يهم فيه ويخطئ فيروي
خبراً بغير سنده، ويرفع الموقوف، فسقط الاحتجاج بروايته. وتبين بالمقابلة
أن مثل هذا الوهم والخطأ كثير عنده، فغالب ما يرويه هكذا يغلط فيه، ويخالف
فيه الثقات. وفيحكم عليه ابن عدي بالضعف قائلاً: “وعامة ما يرويه غير
محفوظ، وابن يمان في نفسه لا يتعمد الكذب، إلا أنه يخطئ ويشتبه عليه”[143].
وبمثل هذه الموازنة والمعارضة يصل النقاد إلى الحكم على
الراوي. ولا يتأتى مثل هذه المقابلة إلا لمن طاف البلاد وجاب الآفاق وجمع
أحاديث جميع العلماء في مختلف أنحاء المدن الإسلامية. وابن عدي قد تحقق له
هذا الشرط، وحصلت له تلك المقدرة. انظر إلى ما يقول ابن عدي في خالد بن عمر
القرشي السعيدي، الذي يروي عن الليث بن سعد وغيره من المحدثين أحاديث
مناكير، حيث ساق جملة من تلك الأحاديث ثم قال: “وهذه الأحاديث التي رواها
خالد عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب كلها باطلة، وعندي أن خالد بن عمرو
وضعها على الليث. ونسخة الليث عن يزيد بن أبي حبيب عندنا من حديث يحيى بن
بكير، وقتيبة، وابن رمح، وابن زغبة، ويزيد بن موهب، ليس فيه من هذا شيء”[144].
فابن عدي من خلال أسفاره الكثيرة وتطوافه الطويلة، وملازمته
لرواية الحديث وجمعه وحفظه والنظر فيه اجتمع لديه أحاديث المدن الإسلامية،
وروايات علماء الأقطار كلها، فحق له أن يصدر مثل هذه الأحكام من خلال
المقابلة والمعارضة. فهو يصدر الحكم الذي يتبين له من خلال النظر إلى
روايات هذا الراوي التي جمعها. ويذكر بعض تلك الأحاديث تأييداً لما يبدي من
رأي.
ومن هنا صار من منهجه أنه يسوق في كل راوٍ بعض أحاديثه ليوضح
من خلالها أوهامه في السند أو المتن، أو حفظه. والغالب أنه بعد أن يعرف
بالراوي ويذكر أقوال العلماء فيه يعرض بعض مروياته ليبين من خلالها الحكم
عليه جرحاً أو تعديلاً، لئلا يكون الحكم عن الهوى، ولا عن تعجل أو تعصب.
ويقل عدد الأحاديث التي يسوقها أو يكثر حسب ما للراوي من الروايات، أو حسب
حاجة ابن عدي إلى توضيح حال الراوي. ففي كثير من الرواة لم يسق إلا أحاديث
قليلة؛ لأن قصده في الغالب الاختصار، وذكر النماذج أو إيراد أنكر ما
للراوي. وفي بعض الرواة أطال المناقشة وأورد كثيراً من رواياته. وفي عدد
قليل من الرواة لم يذكر شيئاً من الروايات، إما لكونه لم يحضر له من
رواياته شيء، وإما لكونه لم يجد في أحاديثه شيئاً من المناكير، وإما
اختصاراً.
أيا كان الأمر فإن النظر في أحاديث الراوي هو الأصل الأصيل
الذي اعتمد عليه ابن عدي في الحكم على الراوي. والواقع أنه لا يكاد يحكم
إلا على أحاديث الراوي، أهي محفوظة صحيحة أم مناكير يتفرد بها عن غيره، كما
سنرى عند حديثنا عن ألفاظ الحكم عنده. فمن كثر المناكير في حديثه فهو
ضعيف. ومن هنا ضعف سعد بن طريف الإسكاف، حيث نقل عن العلماء تضعيفه
وتوهينه، ثم ساق جملة من أحاديثه آخرها: قال رسول الله r شراركم معلموكم،
أقلهم رحمة على اليتيم، وأغلطهم على المسكين”، ثم قال: “ولو لم يرو سعد غير
هذا الحديث لحكم عليه بالضعف، على أن هذا الحديث لم يروه عنه إلا سيف، وعن
سيف عبيد بن إسحاق، وجميعا ضعاف، فلا أدري البلاء منهما أو منه؟ وكل ما
ذكرت من حديث سعد بن طريف عن عمير بن مأمون والأصبغ بن نباتة وما لم أذكره
هاهنا، فإن له عنهم من الحديث غير ما ذكرت، وكل ذلك لا يرويها غيره، وهو
ضعيف جداً”[145]. فالحكم من خلال رواياته، فسعد هذا ضعيف، لأنه يروي ما لا يروي غيره، ويروي ما هو ظاهر البطلان والفساد.
وإذا كان في حديث منكر وصالح مشى أمره ومال إلى قبوله. وذلك
مثل حكمه في سلمة بن الفضل، أبي عبد الله الأبرش، فقد ضعفه جماعة، وجنح ابن
عدي إلى قبوله اعتماداً على أنه نظر إلى أحاديثه وعارضها بأحاديث الآخرين
فوجد الغالب عليه أنه رغم بعض ضعفه في الضبط يضبط الأسانيد والمتون فلا
يخالف فيها الثقات مخالفة كبيرة فقال: “لسلمة أحاديث كثيرة عن سائر مشايخه،
وقد روى المغازي عن ابن إسحاق … وعنده سوى المغازي عن ابن إسحاق إفرادات
وغرائب، ولم أجد في حديثه حديثاً قد جاوز الحد في الإنكار، وأحاديثه
متقاربة محتملة”[146].
وهذا الاساس الثالث هو الفيصل عنده، وعليه مدار الحكم، فإذا
ثبت به ضبط الراوي رفض ما قيل فيه من جروح، وإذا ثبت به كثرة أوهام الراوي
رفض ما قيل تعديله، ولم يبال برواية الثقات عنه. ومن ذلك أنه ذكر الحسن بن
عمارة (153هـ) ضمن الضعفاء. وهو من أجل الفقهاء من النصف الأول من القرن
الثاني الهجري. تولى القضاء في بغداد، وكان موسراً محسناً، إلا أنه قد جرح
في باب الرواية. فتكلم فيه شعبة بن الحجاج (160هـ) كثيراً، واتهمه بالكذب.
وقد تكلم فيه وجرحه سفيان الثوري (161هـ)، وعبد الله بن المبارك (181هـ)،
وجرير بن عبد الحميد (188هـ)، وسفيان بن عيينة (198هـ)، ويحيى بن معين
(233هـ)، وعلي بن المديني (234هـ)، وأحمد بن حنبل (241هـ)، وعمرو بن علي
الفلاس (249هـ) وغيرهم من الأئمة والنقاد. بعضهم كذبه، وبعضهم ذهب إلى أنه
صدوق كثير الوهم والخطأ، وبعضهم اعتذر له[147].
ساق ابن عدي أقوال هؤلاء الأئمة فيه. ثم ساق جملة كبيرة من أحاديثه التي
أنكرت عليه لتفرده بها، وبين في بعضها أنه لم يتفرد بها، أو أن الغلط فيه
ليس منه، بل من الراوي عنه. وبعد ذلك كله قال: “والحسن بن عمارة ما أقرب
قصته إلى ما قاله عمرو بن علي (الفلاس) أنه كثير الوهم والخطأ. وقد روى عنه
الأئمة من الناس كما ذكرته: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن إسحاق،
وجرير…. على أن بعض رواياته عن الحكم وعن غيره غير محفوظات، وهو إلى الضعف
أقرب منه إلى الصدق”[148].
فانظر إلى حكمه، فإنه رغم رواية الأئمة عنه يميل إلى تضعيفه نظراً إلى
وجود جملة من المناكير في رواياته. كما أنه لا يتهمه بالكذب؛ لأن النظر إلى
رواياته يوضح أنه صدوق وإنما يؤتى من قبل الحفظ، فيهم ويخطئ كثيراً، فضعف
في الضبط، لا في العدالة.
هكذا اعتمد ابن عدي على هذا الأساس: النظر في أحاديث الراوي،
وجعله الأساس الأكثر اعتماداً عنده من النظر في أقوال السابقين فيه، والنظر
إلى رواية الثقات. وقد مكنه ذلك أن يتوصل إلى مميزات تميز بها عن غيره،
وأصبح لكتابه هذا قيمة عظيمة من أجلها. وتلك الميزات هي:
أولاً: الاعتدال في الجرح، والدفاع عن رواة جرحوا اعتماداً على صحة أحاديثهم:
النظر إلى أحاديث الراوي المتكلم فيه ومعارضتها بأحاديث
زملائه وأقرانه قد مكن ابن عدي من تصحيح أخطاء السابقين، والدفاع عن رواة
كثيرين. ومن أمثلة ذلك أنه ذكر ضمن المجروحين “أحمد بن صالح أبا جعفر
المصري، المعروف بـ(ابن الطبري)، ونقل عن يحيى بن مَعين أنه كذبه، ونقل عن
النسائي وأبي داود تضعيفه وإنكاره بعض رواياته. ونقل عن أحمد بن حنبل
الثناء عليه. ورجح تعديل أحمد على جرح ابن معين والنسائي وغيرهما. وذلك لأن
النسائي أنكر عليه تفرده برواية حديث، وبين ابن عدي أن حكمه صادر عن تعجل
وتسرع، وأن معارضة الروايات توضح عدم صحة جرح النسائي ومن معه. وقد بين ابن
عدي من خلال موازنة الروايات أن الحديث الذي أنكر عليه النسائي لم يتفرد
به أحمد هذا. وذلك أن النسائي أنكر على أحمد أنه روى عن ابن وهب عن مالك عن
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي r: “الدين النصيحة”، وذلك لأن هذا
الحديث معروف عن تميم الداري، لا عن أبي هريرة، ويرويه سهيل بن أبي صالح
ذكوان عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري، كما في صحيح مسلم[149].
فزعم النسائي أن أحمد هذا أخطأ فيه فرواه عن ابن وهب عن مالك عن سهيل عن
أبيه عن أبي هريرة، أي التبس عليه السند فروى المتن المذكور بسند ليس له،
وهذا يدل على أن ضبطه ليس كما ينبغي. وهذا الذي ذهب إليه النسائي قد رد
عليه وأبطله ابن عدي من خلال معارضة الروايات ومقابلتها. حيث ذكر روايات
عديدة أثبت بها أن هذا الحديث بهذا السند لم يتفرد به أحمد، بل رواه به عن
ابن وهب غيره، ورواه به عن مالك غير ابن وهب، ورواه عن سهيل غير مالك. فثبت
أن روايته عن أبي هريرة بهذا السند صحيحة. فالحديث مروي عن غير واحد من
الصحابة[150]. هكذا يرد ابن عدي على النسائي الذي ضعف ابن الطبري من خلال موازنة الروايات.
ومن ذلك أن عبد الرحمن بن أبي الموال (ت173هـ) راوٍ صدوق، قد
أخرج له البخاري في صحيحه، ولكنه قد تكلم فيه بعض الرواة لأنه تفرد برواية
بعض الأحاديث فذهبوا إلى أنه توهم وأخطأ في روايتها. فنقل ابن عدي عن أبي
طالب تلميذ الإمام أحمد أنه قال: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن أبي
الموال فقال: “عبد الرحمن لا بأس به… يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر عن
النبي r له في الاستخارة ليس يرويه أحد غيره، هو منكر. قلت: هو منكر؟ قال:
نعم، ليس يرويه غيره، لا بأس به. وأهل المدينة إذا كان حديثهم غلط يقولون:
ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما”[151].
ولم يرتض ابن عدي هذا الجرح، ولم يوافق الإمام أحمد في وصف
هذا الحديث بأنه منكر، بل دافع عن ابن أبي الموال قائلاً: “وهو مستقيم
الحديث، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد روى حديث الاستخارة غير واحد
من أصحاب النبي r كما رواه ابن أبي الموال”[152].
علماً بأن حديث الاستخارة المذكور قد أخرجه البخاري وأصحاب السنن
والمسانيد عن ابن أبي الموال عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله، وأشار
الترمذي بأنه رويى عن غيره أيضا فقال بعد رواية حديث جابر عن طريق ابن أبي
الموال: “وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي
أَيُّوبَ، …حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي وَهُوَ شَيْخٌ
مَدِينِيٌّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ سُفْيَانُ حَدِيثًا وَقَدْ رَوَى عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ وَهُوَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي”[153].
ويبدو أن ابن عدي يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود وأبي أيوب، إلا أنه لم
يذكر حديثهما، ولا رواه أحد من أصحاب الكتب التسعة فيما عرفت. وعلى أية حال
فإن ابن عدي يدافع عن ابن أبي الموال ويثبت من خلال المعارضة والمقارنة
أنه لم يتفرد برواية هذا الحديث، بل الحديث مروي عن طرق أخرى عن غير واحد
من الصحابة، فلا إنكار علي ابن أبي الموالي.
وممن ذكره ضمن المجروحين حبيب بن حسان بن أبي الأشرس، أبو
الأشرس، جد صالح جزرة، فنقل أن بعض العلماء ضعفوه، فتركه يحيى القطان، وعبد
الرحمن بن مهدي، وقال أحمد بن حنبل، والنسائي: متروك. وقال البخاري: منكر
الحديث. وقال عبد الله بن سلمة الأفطس إن حبيب بن حسان هذا تزوج امرأة
نصرانية كان عشقها، فتنصر. وقال يحيى بن سعيد: كان رديئاً. هكذا نقل جروحاً
شتى، ولم ينقل توثيقاً عن أحد. ثم ساق أربعة من أحاديثه وقال: “ولحبيب بن
حسان غير ما ذكرت من الحديث. فأما أحاديثه وروايته فقد سبرته ولا أرى به
بأساً. وأما رداءة دينه كما حكى يحيى القطان، وكما ذكر عمرو بن علي عن
الأفطس فهم أعلم بما يذكرونه، والذي قالوا محتمل. وأما في باب الرواية فلم
أر في رواياته بأساً”[154].
وهكذا وثق بهز بن حكيم اعتماداً على هذين الأصلين: النظر إلى
رواياته، وإلى من روى عنه، فقد نقل عن بعض العلماء أنه كان يلعب بالشطرنج،
وهو جرح في عدالة الراوي بأنه كان يرتكب مكروهاً شرعاً. ولكن ابن عدي رد
هذا الجرح اعتماداً على الأصلين الثاني والثالث فقال: “بهز بن حكيم هذا قد
روى عنه ثقات الناس … وأرجو أنه لا بأس به في رواياته. ولم أر أحداً تخلف
في الرواية من الثقات، ولم أر له حديثاً منكراً، وأرجو أنه إذا حدث عن ثقة
فلا بأس بحديثه”[155].
فاللعب بالشطرنج، أو الزواج بالنصرانية والذهاب معها إلى الديرة، أو نحو
ذلك الأفعال التي تقدح مروءة الراوي وتدينه لا يمكننا أن نتعرف عليها وعلى
أسبابها وخلفياتها الآن، ولكن لدينا مرويات الراوي، ونستطيع أن نتعرف من
خلال النظر إليها مدى ضبطه من أخطائه، وصدقه من كذبه، فينبغي أن يكون الحكم
من خلال هذا الأساس المتين.
ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة الكوفي، يكنى أبا جعفر، قال فيه
ابن عدي: كان محمد بن عبد الله الحضرمي مطين سيء الرأي فيه، يقول: عصا موسى
تلقف ما يأفكون. وسألت عبدان عنه فقال: كان يخرج إلينا كتب أبيه المسند
بخطه في أيام أبيه وعمه فيسمعه من أبيه. قلت له: وكان إذ ذاك رجلا؟ قال:
نعم. قال الشيخ: ومحمد بن عثمان هذا على ما وصفه عبدان لا بأس به، وابتلي
مطين بالبلدية؛ لأنهما كوفيان جميعاً، قال فيه ما قال… ولم أر له حديثاً
منكراً فأذكره”[156].
فالبلدي، أو المعاصر قد يجرح المعاصر فيبالغ، فيضعفه بسبب خلل
في مروءته، أو لبعض أعماله كالزواج، أو يكذبه بسبب خطئه في حديث واحد، أو
اثنين، أو يضعفه ويسيء القول فيه بسبب خلاف مذهبي أو شخصي أو لحسد، فلا
يمكن الاعتماد على جرحه، بل لا بد من النظر في رواياته؛ ليتبين صدق الجارح
ومن كذبه، واعتداله من تعصبه، فإذا كان غالب أحاديثه مستقيمة حكم عليه بأنه
ضابط ثقة، وإن أخطأ في بعض أحاديثه. وأما إذا كان يهم في غالب ما يرويه
فيكون عامة ما يرويه لا يتابعه عليه غيره من الرواة تبين أنه غير ضابط، إما
صدوق غير حافظ فيغلط من غير تعمد، وإما كذوب يتعمد تركيب الأسانيد
والمتون، أو وضعها.
وفي ترجمة سليمان بن داود أبي داود الطياليسي (ت 204هـ)[157]، نقل أنه جرحه بعض المعاصرين وغيرهم. فقال إبراهيم بن سعيد الجوهري، أبو إسحاق الطبري- وهو محدث ثقة حافظ مات سنة 250هـ[158]- : “أخطأ أبو داود الطياليسي في ألف حديث”. وذكر محمد بن المنهال الضرير- وهو محدث ثقة حافظ، مات سنة 231هـ[159]- ما يفيد أنه كان يتعمد الكذب، ويدلس[160].
ولكن ابن عدي اختار توثيقه، ودافع عنه بأنه من أحفظ الناس، وعامة أحاديثه
مستقيمة صحيحة، فلا يؤخذ عليه أن يغلط أو يخطئ في حديث أو حديثين أو بضعة
أحاديث، فليس بغريب على من يروي أربعين ألف حديث أن يخطئ في بعضها[161].
ومحمد بن إسحاق بن يسار المدني، صاحب المغازي (ت 151هـ)[162].
ذكره ابن عدي، ونقل فيه ألواناً شتى من الجروح عن معاصريه، فمنهم من كذبه،
ومنهم من اتهمه بأنه قدري، ومنهم من اتهمه في أنه يعتمد على أهل الكتاب
ويوثق اليهود. ممن كذبه من كبار المحدثين الحفاظ المعاصرين: هشام بن عروة
بن الزبير (146هـ) سليمان بن طرخان أبو المعتمر (ت 143هـ)، ومالك بن أنس
(179هـ). وقد تأثر بآراء المعاصرين بعض المتأخرين. فقال يحيى بن سعيد
القطان (ت 198هـ): أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب. وقال جعفر بن محمد الفريابي
(301هـ): زنديق. وقال النسائي (304هـ): ليس بالقوي. وفي المقابل أثنى
عليه وصدقه جماعة، فهذا شعبة بن الحجاج (160هـ)، من أعظم النقاد والحافظ
المعاصرين لابن إسحاق قد أثنى عليه ثناء عطراً وقال: محمد بن إسحاق أمير
المؤمنين في الحديث. وممن أثنى عليه سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن
معين، وغيرهم، فإنهم اعترفوا ببعض أخطائه، وأنه كان يدلس، وأنه رمي
بالتشيع والقدر، ولكنهم صدقوه في رواية الحديث. وقد نقل ابن عدي كل هذه
الآراء وناقشها، وساق جملة من أحاديث ابن إسحاق ثم قال: “ولمحمد بن إسحاق
حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس: شعبة والثوري وابن عيينة وحماد بن سلمة
وغيرهم….وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع
عليه بالضعف، وربما أخطأ أو وهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره، ولم
يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به”[163]. فتراه ينظر إلى أحاديثه، إلى جانب من روى عنه من الثقات. فالحكم بالبينة ولا بالهوى أو العصبية.
وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، صاحب “المصنف”، أحد الحفاظ
الثقات. قد كذبه بعض معاصريه ورغم ذلك قبله العلماء، ووثقوه، قال ابن عدي:
“ولعبد الرزاق بن همام أصناف وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين
وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأسا، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع. وقد
روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليه أحد من الثقات، فهذا أعظم ما
رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم مما لم أذكره
في كتابي هذا. وأما في باب الصدق فأرجو أنه لا بأس به، إلا أنه قد سبق منه
أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير”[164].
فالحكم على الراوي يكون من خلال النظر إلى جميع أحاديثه،
وموازنة خطئه بصوابه، فإذا كان الخطأ قليلا أو في مجال مخصوص، وكان الراوي
ضابطاً في سائر أحاديثه حكم عليه بالتوثيق. فعبد الرزاق له مناكير في مجال
واحد، وهو باب التشيع، وأما في سائر المجالات فهو ثقة ضابط. وفي طريف بن
شهاب الأشل السعدي، أبي سفيان نقل جروحاً عن السابقين، وساق بعض ما أنكر
عليه من رواياته، ثم قال: “ولأبي سفيان هذا غير ما أمليت، وقد روى عنه
الثقات، وإنما أنكر عليه في متون الأحاديث أشياء لم يأت بها غيره، وأما
أسانيده فهي مستقيمة”[165].
وهكذا في سائر الكتاب ترى عددا لا يحصى من الأمثلة والنماذج
تبرهن على أن ابن عدي بسبب اعتماده على هذا الأساس تمكن من الإصابة في
الأحكام إلى حد بعيد، والدفاع عن كثير من الرواة الذين جرحوا بأسباب تافهة
لا تمت بصلة إلى رواية الحديث، أو لأخطاء قليلة لا تعد إذا قورن مع إصابته
وضبطه في الأحاديث الكثيرة.
ثانباُ: توقف عن جرح رواة لم يتمكن ابن عدي من الاطلاع على رواياتهم لقلة رواياتهم، أو لسبب آخر غير ذلك:
ولما كان النظر إلى روايات المحدث الأساس الأول عند ابن عدي
فإنه إذا لم يكن معه أحاديث يحكم من خلالها على ضعفه من قوته صرح بذلك، كما
في إسحاق بن خالد بن يزيد البالسي قال: “روى غير حديث منكر عن جماعة من
الشيوخ، ولم يتفق لي إخراج شيء من حديثه يدل عمن يروي عنه حتى أحكم بأنه
ضعيف”[166].
وفي حنظلة بن عبد الرحمن التيمي نقل عن يحيى بن معين وغيره
تضعيفه، وعلق عليه قائلاً: “ولم أر لحنظلة هذا من الحديث إلا القليل، إلا
أن الثوري قد حدث عنه بشيء يسير، ولم يتبين لي ضعفه لقلة حديثه، إلا أن ابن
معين قد نسبه إلى الضعف”[167].
وفي داود بن عجلان نقل عن ابن معين ويحيى تضعيفه، وذكر له
حديثاً رواه داود هذا عن شيخه أبي عقال هلال بن زيد وقال: “وداود بن عجلان
هذا معروف بهذا الحديث، وإن كان له غيره فلعله حديث أو حديثان، وفي هذا
المقدار من الحديث كيف يعتبر حديثه فيتبين أنه صدوق أو ضعيف، على أن البلاء
من أبي عقال دونه”[168].
وذكر سَلْم بن زرير، أبا يونس، ونقل فيه عن يحيى بن معين
والنسائي تضعيفه. ثم قال: “سلم هذا له أحاديث قليلة وهو في عداد البصريين
المقلين الذين يعد حديثهم، وليس في مقدار ما له من الحديث أن يعتبر بحديثه
ضعيف هو أو صدوق”[169].
وقال: “وعمرو بن النعمان روى عن جماعة من الضعفاء أحاديث منكرة، فلا أدري البلاء منه أو من الضعيف الذي يروه هو عنه”[170].
ثالثاً: جرح رواة لم يتكلم فيهم السابقون
ومن جهة أخرى قد يجرح هو بعض الرواة من خلال النظر إلى
مروياته، وإن لم يكن السابقون قد جرحوه أو تكلموا فيه. وقد سبق بعض الأمثلة
لذلك. ومن ذلك أنه قال في بُرَيْه بن عمر بن سفينة: “ولبريه هذا عن أبيه
عن جده أحاديث وإنما ذكرته في كتابي هذا ولم أجد للمتكلمين في الرجال لأحد
منهم فيه كلاماً، إلا أني رأيت أحاديثه لا يتابعه عليها الثقات”[171].
وذكر بهلول بن عبيد الكندي، فعرف به، وساق جملة من الأحاديث التي تفرد
بها، ثم قال: “لبهلول هذا غير ما ذكرت من الحديث قليل، وأحاديثه عمن روى
عنه فيه نظر، وحديثه عن أبي إسحاق أنكر منه عن غيره. وإنما ذكرته لأبين أن
أحاديثه ليس مما يتابعه الثقات عليها، ولم أر لمن تكلم في الرجال فيه
كلاماً”[172].
وذكر خالد بن إسماعيل أبا الوليد المخزومي، واتهمه بأنه “يضع
الحدث على ثقات المسلمين”، وساق جملة من مناكيره، ثم قال: “ولخالد بن
إسماعيل غير ما ذكرت من الحديث، وعامة حديثه هكذا كما ذكرت وبينت أنها
موضوعات كلها، ولم أر لمن تقدم وتكلم في الرجال تكلماً فيه، على أنهم قد
تكلموا في من هو خير منه بدرجات”[173].
وذكر خالد بن يزيد بن أسد البجلي القسري، فساق جملة من أحاديثه المنكرة
سنداً ومتناً، ثم قال: “خالد بن يزيد هذا له أحاديث غير ما ذكرت، وأحاديثه
كلها لا يتابع عليها لا إسناداً، ولا متناً، ولم أر للمتقدمين الذين
يتكلمون في الرجال لهم فيه قولاً، ولعلهم غفلوا عنه، وقد رأيتهم تكلموا في
من هو خير من خالد هذا، فلم أجد بداً من أن أذكره، وأن أبين صورته عندي،
وهو عندي ضعيف، إلا أن أحاديثه إفرادات، ومع ضعفه كان يكتب حديثه”[174].
وهكذا نرى أن ابن عدي جرح عدداً كبيراً من الرواة، لم يجرحهم
أحد قبله، ولكنه لسعة علمه بالروايات تمكن من خلال النظر في روايات الراوي
ومعارضته ومقارنته مع روايات الآخرين أن يتعرف على أوهامهم، ومواطن ضعفهم
في ضبط الحديث ونقله، فبين حالهم وحال رواياتهم، وفصل القول في نسبة الضعف
فيهم، فبين أن منهم من يهم قليلاً ويقبل روايته، ومنهم من يهم كثيراً فهو
متروك، ومنهم من يسرق الحديث ويضع. فلم يكن ابن عدي جامعاً لآراء السابقين
أو ناقلاً لكلام الآخرين، ولكنه محدث محقق وناقد ماهر، قد تهيأ له وسائل
النقد، وجمع روايات الأقطار، فاستطاع أن يتوصل من خلال النظر إلى روايات
الرواة ومعارضتها ومقارنتها إلى التعرف على كثير من الرواة الضعفاء الذين
غفلوا عنهم المتقدمون، ومن ثم أصبح كتابه أهم مصدر لمن ألفوا في نقد الرجال
وجرحهم وتعديلهم، فكتاب ابن عدي هو أهم ما اعتمدا عليه في معرفة المجروحين
والحكم عليهم.
5) ألفاظ الحكم عنده:
سبق أن أوضحنا أن الأساس الأكبر، والأصل الأقوم عند ابن عدي
هو النظر في أحاديث الراوي، ومن هنا نرى أن ألفاظ الحكم عنده في الغالب
تتناول أحاديث الراوي ورواياته، فتراه في الغالب يحكم عليها، وقد يحكم على
الراوي من خلالها. ويمكن أن نقسم أحكامه قسمين: أحكام قبول، وأحكام تضعيف:
أولاً: أحكام قبول:
سبق أن ابن عدي قد ذكر عدداً من الرواة الثقات لكون بعض
العلماء جرحوهم، وقد دافع عنهم وحكم عليهم بألفاظ القبول والتوثيق. كما أنه
قد يذكر بعض المجروحين، ويناقش مروياتهم، فيحكم عليه بألفاظ قبول رغم
ضعفهم. لأن الحكم على الراوي عنده يكون على الأغلب الأكثر، فمن كان الغالب
عليه الصواب يحكم عليه بأنه مقبول، صالح الحديث، أو لا بأس به، أو يكتب
حديثه، ومن كثر فيه الخطأ مع كثرة الصواب، وهو لا يتعمد الخطأ أو الكذب،
وإنما يخطأ توهما، فيحكم عليه بأنه يكتب حديثه مع ضعفه، أو نحو ذلك من
الأحكام.
1) الجملة الأولى من أحكام القبول تنبئ عن التوثيق
والاحتجاج، وذلك للراوي الذي يندر أخطاؤه، ويعم صوابه، فيعرف بالضبط التام
مع العدالة، فمثله يحتج بحديثه وإن أخطأ في بعض الأشياء. ومن هذه الألفاظ:
من ثقات المسلمين، أو من الأثبات، أو هو ثبت صدوق، أو مستقيم الحديث، أو
أحاديثه مستقيمة، أو يحتج بحديثه، أو “يحتج به”، أو “صحيح الحديث”، أو
“يكتب حديثه ويحتج به”[175]،
علماً بأن “لا بأس به”، أو “لا بأس برواياته” من الأحكام التي تكثر عنده،
ويظهر أنه يستخدمه في الثقة الحجة، وفي المقبول المتقارب، فقد يقول مثلاً
“أحاديثه متقاربة وأرجو أنه لا بأس به”[176]، وقد يقول: “أحاديثه مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به”[177]. وعلى أية حال فهو من ألفاظ القبول والتوثيق عنده[178].
2) الجملة الثانية من ألفاظ القبول تنبئ عن صدق الراوي وأنه
لا بأس بقبول روايته، مثل قوله: “لا بأس به”، أو “صدوق”، أو “صالح فيما
يرويه،”، أو “صالح الحديث” أو “أحاديثه صالحة”، أو “له أحاديث حسان”، أو
“حسن الحديث”، أو “أحاديثه حسان يجب أن تكتب عنه”، أو “متماسك الحديث”، أو
“أحاديثه متقاربة”، أو “متقارب الحديث”، أو “أحاديثه متقاربة محتملة”، أو
“صدوق”، أو “في جملة من ينسب إلى الصدق”، أو “من جملة أهل الصدق”، أو “إلى
الصدق أقرب منه إلى الضعف”، أو “صدوق يهم في الشيء بعد الشيء”، أو “الغالب
على حديثه الاستقامة”، أو “الغالب عليه الصدق” أو “مقبول الأخبار ثبت لا
بأس به”، أو “أحاديثه صالحة تقرب من الاستقامة”، أو “هو وسط”[179].
3) وقد يعبر عن القبول والصلاح بالنفي، كأن يقول: “ليس هو
بمنكر الحديث”، أو “لم أر في أحاديثه حديثاً منكراً”، أو “لم أجد في
أحاديثه منكراً قد جاوز المقدار والحد”، أو “ليست أحاديثه بالمنكر جداً”،
أو “لم أر له شيئاً منكراً جداً”، أو “ليس هو متروك الحديث”[180].
4) ومن أحكام القبول التي تكثر عنده “يكتب حديثه”[181]،
وهذا المصطلح عنده فيه نوع غموض، إلا أنه يبدو أن من لا يتعمد الكذب،
وعنده أخطاء وغرائب، إلى جانب الصواب، فهو ممن يكتب حديثه. لأنه تارة يقول:
“وعامة ما يرويه بعضه لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه”[182]، ويقول: “وفي أحاديثه ما يصح ويوافقه الثقات عليه، ومنها ما لا يوافقه عليه أحد، وهو ممن يكتب حديثه”[183]، وتارة يقول: “ممن تكتب أحاديثه، وإن كان بعضها غير محفوظة”[184]، وتارة يقول: “وسائر أحاديثه عامتها مما لا يتابع عليه، ومع ضعفه يكتب حديثه”[185]. وقد يقول: “يكتب حديثه مع ضعفه”، أو “يكتب حديثه في جملة الضعفاء، أو “في حديث لين، ومع لينه يكتب حديثه”[186]
ثانياً: أحكام جرح وتضعيف:
حيث إن الكتاب مؤلف لذكر الضعفاء، فإن الأغلب الأعم فيه أحكام
تضعيف وجرح. وابن عدي غالباً يحكم على روايات الراوي من خلال معارضتها مع
روايات الآخرين فيقول مثلاً: “أحاديثه لا يوافقه عليها الثقات”، أو
“أحاديثه لا يتابع عليها”، أو “في أحاديثه نظر”، أو “أحاديثه مناكير”، أو
“أحاديثه موضوعات”، وقد يقول: “منكر الحديث”، أو “مضطرب الحديث”. وقد يقول
“يضع الحديث” أو “ضعيف” أو نحو ذلك من ألفاظ الجرح. ولعلنا نقسم هذه
الألفاظ أقساماً، حسب قوة دلالتها في الجرح. القسم الأول ما يدل على بعض
الضعف، والقسم الثاني ما يدل على ضعف شديد وكونه متروكاً، والقسم الثالث ما
يدل على أنه كذاب وضاع.
1) الجملة الأولى من ألفاظ الجرح تنبئ عن بعض الضعف في
الراوي وأنه يوجد في أحاديثه ما يمكن قبوله، كأن يقول: “ليس بالقوي”، أو
“في حديثه بعض النكرة”، أو “في بعض حديثه نكرة”، أو “ليس له متن منكر،
وإنما عيب عليه الأسانيد”، أو “في حديثه بعض ما فيه”، أو “في بعض حديثه
نكرة”، أو “فيه نظر”، أو “أخباره فيها نظر”، أو “ليس بمستقيم الحديث”، أو
“هو مظلم الأمر”، أو “اختلط في آخر عمره”، أو “وهو متوسط في الضعفاء،
وأحاديثه منها ما يتابع عليها، ومنها ما لا يتابع عليها”[187].
2) الأغلب الأعم أن يكتفي ابن عدي بالحكم على رواياته،
والتصريح بعدم المتابعة والموافقه كأن يقول: “عامة ما يرويه لا يتابعه عليه
الثقات”، أو “أحاديثه مقدار ما يرويه لا يتابع عليه”، أو “عامة ما يرويه
لا يتابعه عليه الثقات”، أو “عامة ما يرويه لا يتابَع عليه”، أو “أحاديثه
لا يتابع عليه”، أو “قلما يتابعه عليه أحد”، أو “أحاديثه لا يتابع عليها
متناً ولا إسناداً”، أو “عامة ما يرويه لا يتابعه أحد عليه، إما يكون غلطا
في الإسناد، أو شيئا يرويه بإسناد لا يرويه غيره”، أو “يروي أشياء خالف
فيها الناس من باب المتون ومن الأسانيد”، أو “كل أحاديثه تخالف الثقات في
أسانيدها ومتونها”، أو “لا يشبه حديثه حديث أهل الصدق”، أو “مقدار ما يروي
من الحديث إفرادات ينفرد بها عن من يرويه عنه”، أو “يأتي بأحاديث لا يأتي
بها غيره”[188].
وكلها تدل على معنى، وهو أن هذا الراوي قد اختلت عنده صفة الضبط إلى درجة
أنه لم يضبط أكثر ما يرويه، فسقط الاحتجاج به وحكم عليه بالضعف أو الترك.
3) وقد يعبر عن المخالفة بالنكرة، فيقول: “أحاديثه مناكير”،
أو “عامة ما يرويه مناكير”، أو “عامة أحاديثه مناكير إما إسناداً وإما
متناً”، أو “منكر الحديث عن الثقات”، أو “يروي عن الثقات المناكير” أو “حدث
عن الثقات بعجائب”، أو “يروي المناكير عن الثقات والضعفاء”، أو “منكر
الحديث”، أو “منكر الحديث إسناداً ومتنا”[189].
وقد يصرح بأنه يعني بالإنكار مخالفة الرواة الآخرين، فيقول مثلاً: “منكر
الحديث، عامة ما يرويه عمن يرويه ما لا يتابع عليه”، أو “منكر الحديث، لا
يتابعه الثقات عليها”، أو “منكر الحديث يأتي بمتون ولها أسانيد لا يتابعه
عليها أحد”[190].
وقد يصف أحاديثه المنكرة التي يرويها مخالفاً لغيره من الرواة بالبطلان أو
الغرابة، فيقول: “الأحاديث التي يرويها بواطيل كلها”، أو “يروي البواطيل”،
أو “أحاديثه بواطيل لا أصل لها”، أو “حدث عن الثقات بالبواطيل”، أو
“أحاديثه غرائب”، أو “أحاديثه شبه الغرائب”، أو “عامة ما يرويه إفرادات
وغرائب”[191].
4) وقد يعبر عن المخالفة والنكرة بعدم الحفظ فيقول: “أحاديثه غير محفوظة”، أو “عامة روايته غير محفوظة”، أو “حديثه ليس بمحفوظ”[192].
وقد يصرح بأن عدم الحفظ يعني الإنكار، فيقول: “منكر الحديث”، ثم يقول:
“أحاديثه غير محفوظة”، أو يقول: “رواياته عمن روى ليست بمحفوظة، وعامتها
مناكير”، أو “أو أحاديثه كلها غير محفوظة، وهو منكر الحديث”[193].
5) وقد يعبر عن المخالفة بالضغف، فيقول: “عامة أحاديثه وما
يروي مناكير إما متناً أو إسناداً، والضعف بين على أخباره”، أو “أحاديثه
غير محفوظة، الضعف على بين على حديثه، أو “على رواياته”، أو “كل أحاديثه
مما لا يتابعه الثقات عليه، وهو ضعيف جداً”[194].
وقد يكتفي بأن يقول: “ضعيف”، أو “ضعيف الحديث”، أو “ضعيف جدا”، أو “الضعف
على رواياته بين”، أو “بين الضعف جداً”، أو “بين أمره في الضعفاء”[195].
وقد يقول: “عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى
الصدق”، أو “حديثه أكثره مما لا يتابع عليه، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى
الصدق”[196]. وقد يكتفي بأن يقول: “إلى الضعف أقرب”، أو “إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق”[197].
6) ومن كانت هذه حالته، بأن كان كل أحاديثه أو عامتها مناكير
وإفرادات سنداً أو متناً، لا يوافقه عليها غيره من الرواة فحكمه أنه متروك
الحديث، ولا يكتب حديثه. والغالب أن ابن عدي يصرح بالأحكام السابقة التي
يتوصل إليها من خلال النظر إلى رواياته. وفي بعض الأحيان تراه يصرح بهذه
النتيجة الحتمية فيقول: “منكر الحديث لا يكتب حديثه”[198]. وقد يكتفي بأن يقول: “متروك الحديث”[199]، وقد يبالغ فيقول: “لا يحتج بحديثه ولا يتدين بها”[200].
7) يوضح ابن عدي أحياناً- من خلال الدراسة والمقابلة- مدى
تعمد الراوي تلك المخالفة، فإذا ظهر له أن الراوي إنما غلط فيها ولم
يتعمدها بين ذلك، وهو حريص جد حريص ليعتذر للراوي بمثل هذه التصريحات، كأن
يقول: “أرجو أنه لا يتعمد الكذب، ولكن يشتبه عليه فيخطئ”، أو “أرجو أن لا
يتعمد الكذب، بل لعله يهم في أحاديثه”، أو “هو ممن لا يتعمد الكذب، ولكن
يشتبه عليه فيرويه حسب ما يستحسن”، أو “أرجو أنه لا يستحق ولا يستوجب تصريح
كذبه”، أو “أحاديثه مناكير كلها، وهو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو ممن
يشبه علي فيغلط فيحدث به من حفظه”[201].
8) لكنه إذا تيقن من أنه يتعمد المخالفة، بين ذلك، والتعمد
إما يكون سرقة وإما يكون وضعاً. فابن عدي يحكم على الراوي بالسرقة قائلاً:
“ضعيف يسرق الأحاديث”، أو “يسرق الحديث”، أو “يسرق الحديث ويسوي الأسانيد”،
أو “يقلب الأسانيد ويسرق”، أو “في أحاديثه موضوعات وسرقات”، أو “يوصل
الحديث ويسرق”، أو “أحاديثه عامتها مسروقة سرقها من قوم ثقات، ويوصل
الأحاديث”[202].
9) وأشد الأحكام التضعيفية الحكم بالكذب والوضع. ويظهر من
خلال دراسة كتاب ابن عدي أنه يتحاشى الحكم بالوضع، فإن كثيراً ممن كذبه بعض
العلماء من قبله قد اعتذر عنهم بأنهم لم يتعمدوا الكذب، وإنما غلطوا. فلا
يحكم ابن عدي على الراوي بأنه وضاع لمجرد كونه يروي ما لا يرويه غيره، بل
ينظر إلى آراء السابقين أولاً هل اتهموه بالكذب، ثم ينظر إلى أحاديثه هل
يمكن حمله على الخطأ والوهم، وينظر إلى الإسناد هل ادعى فيه المحال بأن
ادعى لقاء أشخاص ماتوا قبل ولادته، أو أصر على الكذب؟ وينظر إلى المتن هل
معناه صريح البطلان؟ فإذا تيقن من خلال تلك الأمور أن الراوي يتعمد الكذب
حكم عليه بالكذب والوضع قائلاً: “أحاديثه موضوعة”، أو أحاديثه موضوعة لا
أصل لها”، أو “أحاديثه تشبه الوضع”، أو “يضع الحديث”، أو “هو في عداد من
يعض الحديث”، “في عداد من يضع الحديث متنا وإسناداً”، أو “عامة ما يرويه
موضوعات”، أو “كذوب”، أو “يتعمد الكذب”، أو “أرى في حديثه ما يستحق به
الكذب”[203].
10) وهناك نوع آخر من الجرح يتعلق بشخص الراوي، وذلك أن
يكون الراوي مجهولا، غير معروف، فلا يعرف شخصه، ولا صفاته، ولا ترجمته، بأن
يكون لم يحدث عنه إلا شخص واحد، أو لم ينقل عنه إلا أحاديث يسيرة، فلم
يتعرف النقاد على حاله. وفي مثل هذا الراوي يقول ابن عدي: “لا أعرفه”، أو
“ليس هو بذلك المعروف”، أو “مجهول”، أو “مجهول لا يعرف”، أو “مجهول لم يحدث
عنه إلا فلان”[204]. وقد يقول: “هو شبه مجهول”[205].
11) ومما يلحظ في أحكام ابن عدي مع التضعيف قد يوازن بين الراويين الضعيفين، فيفضل أحدهما على الآخر قائلآ: “فلان خير من فلان”[206].
6) المآخذ على ابن عدي في كتابه “الكامل في ضعفاء الرجال”:
لعلنا قد أوضحنا فيما سبق جهود هذا العالم الجليل، وقيمة
كتابه هذا، ومكانته العظيمة في ميدان علم الجرح والتعديل، فابن عدي فارس من
فرسان هذا الميدان، وإمام من أئمته، وكتابه يعد موسوعة لهذا الفن الجليل.
ولكن ابن عدي بشر كغيره من البشر، لا يخلو من الأخطاء، ولا يتنزه من
النزعات البشرية، ومن ثم قد شاب عمله بعض المآخذ. وقد سبق الإشارة إلى
بعضها، مثل سوء الترتيب، وترك ذكر بعض الضعفاء، وذكر بعض الثقات والصحابة.
ومن الأمور التي تؤخذ على ابن عدي ما يلي:
1) خطأه في معرفة بعض الرواة:
الناظر في كتب الرجال كثيراً ما يجد راويين أو أكثر يتفقون في
الاسم واسم الأب والنسبة، فيشتبه على المحدث العادي، ولكن المحدث الماهر
يميز بينهم بالنظر إلى الأساتذة والتلاميذ والقرائن الأخرى. ورغم ذلك قد
يخطئ الناقد في معرفة بعض الرواة فيخلط راوياً بآخر، لشدة التشابه حتى في
الأساتذة والتلاميذ. وابن عدي من أوسع الناس علماً بالرجال، وأكثرهم
اطلاعاً على أحوالهم، إلا أنه قد التبس عليه بعض الرجال، لقلة رواياتهم إلى
جانب تشابههم في الاسم واسم الأب وفي البلد والعصر وفي الشيوخ والتلاميذ.
ومن أمثلة ذلك أنه خلط بين “محمد بن وهب بن عطية الدمشقي”، و”محمد بن وهب
بن مسلم القرشي الدمشقي”، وهما متعاصران يتفقان في الاسم والبلد وفي الشيوخ
والتلاميذ، إلى جانب أن من يروي عن هذا أو ذاك لا يسمي جده، بل يكتفي بذكر
اسمه واسم أبيه فيقول: “محمد بن وهب” فالتبس الأمر على ابن عدي فظن أن
“محمد بن وهب” شخص واحد. فذكر محمد بن وهب بن عطية الدمشقي، وساق له حديثين
منكرين باطلين وقال: “ولمحمد بن وهب بن عطية غير حديث منكر، ولم أر
للمتقدمين فيه كلاماً، وقد رأيتهم تكلموا فيمن هو خير منه”[207].
والواقع أن “محمد بن وهب” الذي ساق له ابن عدي الحديثين
المنكرين هو “محمد بن وهب بن مسلم”، وليس “محمد بن وهب بن عطية”. فـ”محمد
بن وهب بن عطية” راوٍ صدوق أخرج له البخاري حديثاً، وابن ماجه حديثاً. وأما
“محمد بن وهب بن مسلم” فليس له رواية في الكتب الستة، وهو راوي الحديثين
المنكرين اللذين ذكرهما ابن عدي. وفي ذلك يقول الذهبي: “محمد بن وهب
الدمشقي عن الوليد بن مسلم وغيره … وقال ابن عدي: لما بدأ ذكره: هذا محمد
بن وهب بن عطية الدمشقي، فأخطأ حيث جعل اسم جده عطية، فإن الذي جده عطية
آخر، وهو أبو عبد الله السلمي الذي أخرج له البخاري عن الذهلي عنه عن محمد
بن حرب وله رواية أيضا عن الوليد وبقية.. وأما الضعيف فهو محمد بن وهب بن
مسلم الدمشقي، ذكره ابن عساكر بعد ابن عطية فقال: حديث بمصر…. “[208].
وذكر الحافظ ابن حجر ابن عطية أولاً، ثم ذكر ابن مسلم تمييزاً وقال: “ظن
ابن عدي أنه الأول، فقال:هو محمد بن وهب بن عطية، وليس كما ظن، وقد فرق
بينهما أبو القاسم بن عساكر فأصاب”[209].
ومن أوهامه من هذا القبيل أنه خلط بين شخصين كنيتهما “أبو
عصام” فجعلهما واحداً، ثم توصل من هذا الخطأ إلى خطأ آخر وهو توثيق راوٍ
ضعيف جداً متهم بالكذب. وذلك أن من جملة المجروحين خالد بن عبيد العَتْكي،
أبو عصام البصري، نزيل مرو، وهو من طبقة التابعين، روى عن أنس. وكان جليل
القدر معظماً عند العلماء، ولا سيما أهل مرو، ولكنه كان ضعيفاً في الحديث
إلى درجة الوضع والكذب، فقد حدث عن أنس بنسخة موضوعة كلها أباطيل لا أصل
لها، حتى قال ابن حبان: “يعرفها من ليس الحديث صناعته أنها موضوعة”. وبذلك
أصبح متروك الحديث عند المحدثين جميعاً، وليس له عند أصحاب الكتب الستة
رواية إلا ابن ماجه فقد أخرج له حديثاً واحداً[210].
وقد ذكر ابن عدي هذا الراوي المجمع على ضعفه والمتروك حديثه،
ولكنه خلطه براوٍ آخر معروف بكنيته، وهو “أبو عصام المزني البصري”، اختلف
في اسمه، وقيل اسمه ثمامة فهذا راوٍ صدوق مقبول[211]،
روى عن أنس حديث التنفس في الإناء ثلاثاً، أخرجه من طريقه مسلم، وغيره من
أصحاب السنن والمسانيد. قال مسلم: “حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ ح و حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ
فَرُّوخَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عِصَامٍ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ كَانَ رَسُولُ r يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ
إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أَتَنَفَّسُ
فِي الشَّرَابِ ثَلاثًا[212].
حدثه عن أبي عصام جماعة من الثقات، مثل شعبة وهشام الدستوائي، وغيرهم.
وابن عدي توهم فجعلهما واحداً، وهذا التوهم دفعه إلى خطأ كبير. وذلك أنه
لما ترجم لخالد بن عبيد العَتْكي، أبي عصام البصري، ونقل فيه جروح العلماء،
ساق جملة من أحاديثه، فساق بعض أحاديث خالد بن عبيد المنكرة، وبعض أحاديث
أبي عصام ثمامة البصري الصحيحة، مثل حديث التنفس ثلاثاً عند الشرب. ولما
وجد أن “أبا عصام” له جملة من الأحاديث الصحيحة- زعماً منه أن الأحاديث
الصحيحة هذه لأبي عصام خالد- استخلص إلى نتيجة خاطئة إذ مال إلى قبوله
قائلاً: “لأبي عصام هذا غير ما ذكرت من الحديث عن أنس وابن بريدة والحسن
(البصري) وغيرهم، وهو بصري نزل مرو، وليس في حديثه حديث منكر جداً”[213].
ولا شك أن هذا الحكم خطأ نتيجة عن وهم، فأبو عصام خالد بن عبيد العتكي
مجمع على ضعفه وتركه، متهم في أحاديثه. وأما الذي ليس في أحاديثه منكر فأبو
عصام البصري ثمامة. ومن هنا قال الذهبي: “وقد وهم ابن عدي وتوهم أن هذا هو
أبو عصام، ذاك الثقة الذي حدث عنه شعبة وعبد الوارث، فساق في الترجمة حديث
التنفس ثلاثاً، الذي أخرجه مسلم، وحديث مصوه مصا، وهو خبر محفوظ”[214].
2) الغموض والتناقض والتردد في بعض الأحكام:
تميز ابن عدي بالمناقشة المفصلة وتوضيح أحوال الرواة
وأحاديثهم. ولكننا نجده في بعض الأحيان يأتي بأحكام فيه نوع غموض، كأنه
تردد في الحكم عليه بين تحسين وتضعيف، أو أن المصطلح لم يستقر عنده. ومن
ذلك أنه في ترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي قال في أول الترجمة: “روى
عن الثقات أحاديث مناكير”. وبعد عرض بعض الأحاديث قال: “وهذه الأحاديث بهذا
الإسناد لم أره إلا من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن هذا، ولعل هذا من قبل
جعفر بن عبد الواحد [الراوي عن إبراهيم]، فإنه لين، ولم أر لإبراهيم بن عبد
الرحمن حديثاً منكراً يحكم من أجله على ضعفه”[215]. فانظر إلى التعارض بين الحكم الأول والثاني، ففي الأول يجزم بأنه يروي المناكير عن الثقات، ثم يقول: لم أر له حديثاً منكراً!.
ومثله حكمه على حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي، فبعد ما
عرف به نقل عن النقاد، مثل يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وعبد الرحمن بن
مهدي، والبخاري، والنسائي وغيرهم تضعيفه، ولم ينقل عن أحد توثيقه. ثم ساق
جملة من أحاديثه التي تفرد بها وأنكرت عليه، ثم قال: “ولحسام غير ما ذكرت
من الحديث، وعامة أحاديثه إفرادات، وهو مع ضعفه حسن الحديث، وهو إلى الضعف
أقرب منه إلى الصدق”[216]. فانظر إلى غموض هذا الحكم والتناقض فيه، فحسام يكاد يكون مجمعاً على أنه ضعيف متروك، كما قال ابن حجر: “ضعيف يكاد أن يترك”[217].
وابن عدي نفسه ينقل أقوال العلماء في تضعيفه، ويعترف بأنه ضعيف عامة
أحاديثه مناكير يتفرد بها عن الثقات، ورغم ذلك يقول: هو حسن الحديث، ثم
يناقض ثانياً فيقول: هو إلى الضعف أقرب.
في عمر بن حبيب العدوي البصري نقل عن النقاد تضعيفه، وساق
جملة من مناكيره، أحاديثه التي تفرد بها وخالف فيها الثقات، ثم قال: “ولعمر
بن حبيب غير ما ذكرت، وهو حسن الحديث، ومع ذلك يكتب حديثه مع ضعفه”[218].
ولا يخفى التعارض والغموض في كلامه، فالراوي ضعيف عند النقاد، لم يوثقه
أحد، وهو بنفسه ساق جملة كبيرة من مناكيره، ثم يقول هو حسن الحديث، وفي
الوقت نفسه يقول: ضعيف.
ومن أمثلة التردد أنه ذكر جعفر بن جسر بن فرقد القصاب، وساق
له بعض الأحاديث المنكرة، ثم قال: “ولجعفر بن جسر أحاديث مناكير غير ما
ذكرت، ولم أر للمتكلمين في الرجال فيه قولاً، ولا أدري كيف غفلوا عنه؛ لأن
عامة ما يرويه منكر، وقد ذكرته لما أنكرت من الأسانيد والمتون التي يرويها.
ولعل ذاك إنما هو من قبل أبيه، فإن أباه قد تكلم فيه من تقدم ممن يتكلمون
في الضعفاء، لأني لم أر جعفراً يروي عن غير أبيه”[219].
هكذا تراه هنا يميل إلى أن الضعف والإنكار في جسر بن فرقد، لا
في ابنه جعفر. ولكنه في ترجمة جسر هذا ذكر أقوال العلماء السابقين في
جرحه، وساق بعض الأحاديث المنكرة التي يرويها جسر، وعنه ابنه جعفر، ثم قال:
“البلاء من جعفر، لا من جسر؛ لأن هذه الأحاديث التي أمليتها عن محمد بن
زياد عن جعفر بن جسر عن أبيه لا يرويها عن جسر غير ابنه جعفر. والأحاديث
الأخرى التي أمليت مما يرويه عنه غير ابنه فهي أحاديث صالحة مستقيمة، على
أن جسرا هو في الضعفاء وابنه مثله. ولجسر بن فرقد هذا غير ما ذكرت من
الحديث، وليس بالكثير، وأحاديثه عامتها غير محفوظة”[220]. فهو هنا يجزم بأن البلاء من الابن، لا من الأب، على خلاف ما مال إليه في الأول.
وفي حماد بن الجعد نقل عن جماعة من النقاد تضعيفه، وذكر بعض
أحاديثه التي تفرد بها وأغرب فيها، ثم قال: “وحماد بن الجعد ليس له من
الأحاديث غير ما ذكرت، وهو حسن الحديث ومع ضعفه يكتب حديثه”[221]. ولا أدري كيف يكون حسن الحديث، ثم يكون ضعيفاً يكتب حديثه؟ وفي الكتاب أمثلة أخرى للغموض والتردد.
3) توثيق الضعيف، ومخالفة الجمهور في التضعيف:
وقد رأينا فيما سبق أن ابن عدي يحرص على الاعتدال، ويحاول
الاعتذار عن الراوي المجروح، والدفاع عنه ما أمكن، مما جعل لجرحه فيمة عند
المتأخرين، فليس هو ممن يتعجل في الجرح، ولا يجرح الراوي بخطأ أو خطأين، بل
يتريث ويتثبت. ولكنه قد دفعه هذا الحرص وذلك المنهج إلى توثيق ضعيف في بعض
الأحيان. فترى أن حرصه على الاعتذار للراوي قد يدفعه إلى أن يوثق راوياً
قد أجمع النقاد على تركه. ومن ذلك أنه دافع عن شيخه “أحمد بن محمد بن سعيد”
المعروف بابن عقدة (ت 332هـ)، وقال فيه: “كان صاحب معرفة وحفظ، ومقدم في
هذه الصناعة إلا أني رأيت مشايخ بغداد مسيئين الثناء عليه …. وكان مقدماً
في الشيعة، وفي هذه الصنعة (أي في علم الحديث) أيضا، ولم أجد بداً من ذكره؛
لأني شرطت في أول كتابي هذا أن أذكر فيه كل من تكلم فيه متكلم، ولا أحابي،
ولولا ذاك لم أذكره للذي كان فيه من الفضل والمعرفة”[222].
هكذا يقول، رغم أن ابن عقدة هذا رغم توسعه في الحفظ والرواية قد ضعفه
العلماء لكثرة روايته الأحاديث المنكرة عن الضعفاء والمجهولين، ولتشيعه
وروايته في مثالب الصحابة، ولضعفه في دينه، كما هو مشروح في مصادر ترجمته[223]، وقد ظهر لي أنه لم يعظم من شأن ابن عقدة غير ابن عدي، إلى جانب أنه دافع عنه بألفاظ تعظيم لم يستخدمهما في كثير من الأئمة.
ومن ذلك أنه ذكر “حامد بن آدم المروزي”، وقد كذبه السعدي،
وابن معين، وأحمد بن علي السليماني، والجوزجاني، ولكن ابن عدي ذهب إلى
توثيقه وتقوية أمره قائلاً: “وحامد بن آدم هذا يروي عن عبد الله بن
المبارك…. ولم أر في حديثه إذا روى عن ثقة شيئاً منكراً، وإنما يؤتى ذلك
إذا حدث عن ضعيف”[224].
فتراه لا يضعفه، حتى لا يصفه بالأخطاء، والأوهام غير المتعمدة، بل يحمل
الرواة أعباء الأخطاء، ويفعل كل ذلك دون أن يسوق له شيئاً من أحاديثه.
وفي ترجمة إسماعيل بن إبراهيم أبي يحيى التيمي ذكر عن ابن
نمير والبخاري أنه ضعيف جداً، ونقل عن النسائي وغيره أنه ضعيف. وساق له
حديثاً واحداً، ثم قال: “ولأبي يحيى التيمي هذا أحاديث حسان، وليس فيما
يرويه حديث منكر المتن، ويكتب حديثه”[225]. وإسماعيل بن إبراهيم هذا قد ضعفه غير من ذكر من العلماء، بل قد أجمع العلماء على ضعفه، ومن هنا قال الذهبي: “مجمع على ضعفه”[226]، وقال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: “ضعيف”[227].
ورغم هذا ترى ابن عدي يدعي أن أحاديثه حسان، وأنه لم يجد فيها حديثاً
واحداً منكرا، ولا يثبت دعواه من خلال عرض أحاديثه وموازنتها مع مرويات
غيره من العلماء.
وخارجة بن مصعب، أبو الحجاج السرخسي (168هـ)، أحد الضعفاء
الذين استقر عند النقاد ضعفه وتركه، حتى قال ابن حجر “متروك، كان يدلس عن
الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذبه”[228]،
وما يقوله الحافظ في التقريب هو خلاصة آراء النقاد وعصارتها. وقد ذكره ابن
عدي، ونقل فيه عن العلماء النقاد أنواعاً شتى من الجروح، فمنهم من كذبه،
ومنهم من تركه، ومنهم من ضعفه، ولم ينقل عن أحد أنه مقبول أو صدوق. ثم ساق
قرابة 53 حديثاً من أحاديثه في عشر صفحات، وبين ما فيها من المخالفات
والتفرد. ثم قال: “وخارجة بن مصعب له حديث كثير، وأصناف، فيها مسند
ومقاطيع، وحدث عنه أهل العراق وأهل خراسان، وهو ممن يكتب حديثه، وعندي أنه
إذا خالف في الإسناد أو في المتن فإنه يغلط ولا يتعمد، وإذا روى حديثاً
منكراً فيكون البلاء ممن روى عنه، فيكون ضعيفاً، وليس هو ممن يتعمد الكذب”[229].
فتراه يخالف النقاد الذين يذكر آراءهم في جرحه، اعتماداً على أن محدثي هذه
المدن قد رووا عنه، ويحمل أخطاءه تارة على تلاميذه، وتارة يعتذر له
بالغلط.
4) عدم التثبت في نقل أحاديث الراوي، وعيب الراوي بحديث لم يروه هو بل وضع عليه:
سبق أن أحكام ابن عدي تعتمد على أحاديث الراوي ورواياته، وهو
منهج قويم ومسلك سليم، ومعيار مستقيم لنقد الراوي، وأقوم في الحكم عليه
وأدنى أن لا يظلم، ولكن لا بد أن يكون السند إلى هذا الراوي صحيحاً. فإذا
صح عن الراوي أنه يروي ما يخالف فيه الثقات، وما لا يتابعه عليه أحد حكم
عليه بالضعف حسب درجة المخالفة والتفرد والبعد في أحاديثه. وإذا صح أن معظم
أحاديثه يتابعه عليه غيره من الرواة، ولا يتفرد به، ثبت أنه ضابط حافظ ثقة
في رواية الحديث، وإن قيل تضعيفه شيء. ولكن لا يمكن أن يتهم الراوي بشيء
ليس من روايته، وإنما وضع عليه فيما بعد. وهذا ما حصل لابن عدي في بعض
الأحيان. فمن المجروحين الذين ذكرهم ابن عدي “عبد العزيز بن أبي رواد
ميمون المكي (159هـ)”، وهو محدث صدوق عابد، أخرج له البخاري في التاريخ،
وأصحاب السنن[230]. وذكره ابن عدي، وساق له بعض الأحاديث، ثم قال: “ولعبد العزيز بن أبي رواد غير حديث، وفي بعض رواياته ما لا يتابع عليه”[231].
ومن تلك الأحاديث حديث قال فيه ابن عدي: “حدثنا ابن أبي عصمة، ثنا أحمد بن
عبد الله بن قراب الحداد قال: ثنا إبراهيم بن أبي منصور، ثنا عبد الله بن
المغيرة بمصر ثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت
رسول الله r يقول: “إن بعض أوصياء عيسى بن مريم حي، وهو بأرض العراق، فإذا
أنت لقيته فأقرئه مني السلام، وسيلقاه قوم من أمتي يوجب الله لهم الجنة”.
هذا بلا شك حديث منكر لا يتابع عليه، ولكن اللوم ليس فيه على
عبد العزيز بن أبي رواد، بل الحديث وضع عليه فيما بعد، واللوم على الراوي
عنه “عبد الله بن المغيرة”. قال الذهبي، بعد أن ذكر رواية ابن عدي لهذا
الحديث في ترجمة ابن أبي رواد: “هذا من عيوب كامل ابن عدي، يأتي في ترجمة
الرجل بخبر باطل، لا يكون حدث به قط، وإنما وضع من بعده، فهذا خبر باطل،
وإسناد مظلم، وابن المغيرة ليس بثقة”[232].
و”غالب بن خُطّاف القطان، أبو سليمان، البصري”، وهو محدث صدوق ثقة، من رجال الصحيحين، أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما الأئمة[233].
ذكره ابن عدي، وساق له بعض الأحاديث وقال: “غالبٌ الضعفُ على أحاديثه
بين”، وقال: “ولغالب غير ما ذكرت، وفي حديثه بعض النكرة، وقد روى عن الأعمش
عن أبي وائل عن عبد الله حديث “شهد الله..” حديث معضل، رواه عنه عمر بن
المختار، بصري، ورواه عن عمر عمار بن عمر ابنه، حدثناه الحسن بن سفيان،
وعبدان، ومحمد بن الحسن البصري وأحمد بن حفص السعدي، كلهم عن عمار بذلك”[234].
وقد عقب الذهبي على صنيع ابن عدي قائلاً: “الآفة من عمر، فإنه
متهم بالوضع، فما أنصف ابن عدي في إحضاره هذا الحديث في ترجمة غالب، وغالب
من رجال الصحيحين، وقد قال فيه أحمد بن حنبل- كما قدمنا- ثقة ثقة”[235]
5) تأثره بالتصب المذهبي في الجرح والتوثيق:
يتضح لقارئ كتاب ابن عدي أنه قد رزق قدراً كبيراً من التوازن
والحلم، والاعتدال والاتزان، فلم يتسرع إلى تضعيف الصدوق، بل إن تريثه قد
دفعه أحياناً إلى توثيق المجمع على ضعفه. هذا ما تبين مما سبق. فهل حصل منه
عكس ذلك؟ هل تعمد لتضعيف راوٍ لكونه مخالفاً له في المذهب، أو لسبب آخر
غير الضعف في رواية الحديث؟ قد اتهم ابن عدي بذلك. فقد اتهمه بعض الأحناف
بأنه تعصب للشوافع فوثق بعض شيوخ الشافعي وتلاميذه رغم إجماع الجمهور على
تضعيفه، كما أنه جرح أئمة المذهب الحنفي وبالغ في جرحهم وشنع بهم وما ذاك
إلا تعصب ممقوت منه. وممن اتهمه بذلك الشيخ محمد زاهد الكوثري، فقد اتهمه
بالإساءة إلى الأحناف والتكلم فيهم عن هوى من أجل التعصب، وبتقوية بعض شيوخ
الشافعي وتلاميذه الضعفاء من أجل التعصب المذهبي أيضا[236].
وتبعه في ذلك تلميذه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وذهب إلى أن ابن عدي لا
ينبغي أن يعد من النقاد المعتدلين الذين يعتمد على جرحهم وتعديلهم- كما فعل
الذهبي وغيره- بل ينبغي أن يعد من المتعنتين الذين لا يعتمد على جرحهم[237]. فما مدى صحة هذه التهمة؟
يبدو للباحث أن ابن عدي الغالب عليه الاعتدال والتثبت، وأنه
لم يتعمد جرح أحد وإظهار مثالبه من أجل الخلاف المذهبي أو الهوى، ولكنه قد
تأثر بمذهبه الفقهي، فأملى عليه حبه نوعاً من الاندفاع للاعتذار، كما أن
كرهه المذهبي قد منعه من الاعتدال والاعتذار المعهودين منه. والأمثلة
التالية توضح لنا ذلك:
أولاً: الجنوح إلى توثيق أناس لأسباب مذهبية:
ترجم ابن عدي لإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، أبي إسحاق
الأسلمي (ت 184هـ)، وهو من شيوخ الإمام الشافعي، وقد أكثر عنه الشافعي
وأحسن الظن به، فقال: “لأن يخر إبراهيم من بُعدٍ أحب إليه من أن يكذب، وكان
ثقة في الحديث”[238].
وقد خالف أئمة الحديث وجهابذة النقد الشافعي في هذا، فيكادون يجمعون على
ضعفه، بل على أنه كذاب، متهم في دينه، وأنه قد اجتمع فيه ضروب من البدع،
فكان قدرياً، شيعياً، رافضياً، معتزلياً، جهمياً. وممن صرح بأنه ضعيف متروك
أحمد بن حنبل، والبخاري، وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، ومحمد بن
سعد، والعجلي، ونعيم بن حماد، وأبو إسحاق إبراهيم السعدي، والنسائي،
والدارقطني والعقيلي، والجوزجاني، وأبو زرعة الرازي وغيرهم كثيرون، بل لم
يذكره أحد من علماء الجرح والتعديل إلا جرحه وصرح بأنه ضعيف متروك. وممن
صرح بأنه “كذاب”، و”متهم في دينه” وأنه “كان يوضع له مسائل فيضع لها
إسناداً”، مالك بن أنس، ويحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن
المديني، وإبراهيم بن سعد، ويزيد بن هارون، وابن حبان البستي، والبزار،
وأنكروا على الإمام الشافعي الاحتجاج به أشد الإنكار[239].
رغم هذا الإجماع أو شبه الإجماع ترى ابن عدي يدافع عنه دفاعاً
كبيراً، ومن أجل ذلك تراه يبحث عمن وثقه، وينظر إلى من حدث عنه من أئمة
الحديث. فأما الأول فلم يكد ابن عدي وشيخه ابن عقدة- السابق ذكره- يجدان
أحداً من أئمة النقد وجهابذة الجرح والتعديل، إلا محدثا واحداً اسمه حمدان
بن الأصبهاني، فنقل ابن عدي عن شيخه ابن عقدة أنه قبل قبل رواية إبراهيم بن
أبي يحيى. وحمدان بن الأصفهاني هذا محدث مغمور ليس من علماء النقد، ولم
يذكره الذهبي في رسالته “ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل”، ولا
السخاوي في رسالته: “المتكلمون في الرجال”[240].
فأين رأيه في مقابل أئمة الجرح والتعديل الذين أجمعوا على تضعيفه وتركه،
بل على تكذيبه. ومن هنا قال الذهبي بعد ذكر توثيق الشافعي وابن الأصفهاني
لإبراهيم هذا: “والجرح مقدم”[241]، ولا سيما إذا كان الجرح مفسراً موضحاً مجمعاً عليه.
وأما الأمر الثاني، وهو النظر إلى من روى عنه من الثقات فقال
ابن عدي: “وقد حدث عنه ابن جريج، والثوري، وعباد بن منصور، ومندل، وأبو
أيوب، ويحيى بن أيوب المصري وغيرهم من الكبار”[242].
والحق أن ابن عدي بالغ وجاوز الحد من جهتين: أولهما أن هؤلاء الذين ذكرهم
ابن عدي لم يروا عن إبراهيم بن أبي يحيى إلا قليلاً، إلى جانب أنهم كانوا
يستحيون من ذكره ومن التصريح بالرواية عنه، ومن ثم كانوا يكنون عنه، ولا
يصرحون باسمه. فالرجل مشهور بأنه “إبراهيم بن أبي يحيى” أو “إبراهيم بن
محمد بن أبي يحيى” فيقول فيه ابن جريج تارة: “إبراهيم بن محمد بن أبي
عطاء”، وتارة يقول: “إبراهيم بن محمد بن أبي عاصم”، وقد يحذف اسمه حذفاً،
فيقول: “أُخبرتُ عن عثيم”. ويقول الثوري: “عن رجل عن عمارة” فلا يسم الرجل
الذي هو إبراهيم هذا. ويقول مندل: “حدثنا أبو إسحاق”، يعني به إبراهيم هذا،
ولكن يكني عنه رغم أنه مشهور باسمه لا بكنيته[243]. وهكذا تراهم يفعلون، وما ذلك إلا لكونه ضعيفاً عندهم ولعدم ارتياحهم بالتصريح بالأخذ عنهم.
ثانيهما أن رواية الثقات عن راوٍ ليست نصريجاً بتوثيقهم إياه،
بل قد يرون عمن يصرحون بتضعيفه وجرحه لسبب من الأسباب، إما لعدم وجود هذا
الحديث عند غيره، وإما لعلو سنده، وإما لعلة أخرى. وقد نقل ابن عدي في
كتابه نماذج كثيرة لرواة الأئمة عن جماعة من الضعفاء، ولم يوثق هو أولئك
الضعفاء من أجل رواية الأئمة عنهم. فسفيان الثوري قد روى عن محمد بن السائب
الكلبي، رغم تكذيبه إياه[244]، وروى حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق صاحب المغازي، رغم تضعيفه إياه[245]. وفي ترجمة إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال ابن عدي: “هو بين في الضعفاء، على أن الليث بن سعد قد روى عنه نسخة طويلة”[246].
فلا يشفع له رواية الإمام الليث عنه. وفي أبان بن أبي عياش صرح بأنه ضعيف
بين الأمر في الضعف، رغم أنه قد حدث عنه الثوري ومعمر وابن جريج وإسرائيل
وحماد بن سلمة وغيرهم[247]. وهذا كثير.
ثم إن ابن عدي قد بالغ في الدفاع عنه حتى تجاوز الحد، فقال:
“له أحاديث كثيرة، وله كتاب “الموطأ”، أضعاف موطأ مالك، ونسخ كثيرة …..وقد
نظرت أنا في أحاديثه وتبحرتها، وفتشت الكل منها، فليس فيها حديث منكر،
وإنما يروي المنكر إذا كان العهدة من قبل الراوي عنه، أو من قبل من يروي
إبراهيم عنه، وكأنه أتي من قبل شيخه، لا من قبله، وهو في جملة من يكتب
حديثه، وقد وثقه الشافعي وابن الأصفهاني وغيرهما”[248].
هكذا تراه يقوي من أمره، حتى يصرح بأنه لم يجد في أحاديثه الكثيرة حديثاً
واحداً منكراً، هكذا! مع تصريح ابن معين وأحمد وغيرهما بأنه يروي المناكير
والأباطيل والموضوعات.
فالظاهر أن ابن عدي قد أخذته نفحة من التعصب لإمامه الشافعي
رحمه الله، وشق عليه أن يعتمد الشافعي على ضعيف وكذاب فاجتهد لتوثيقه
فتجاوز الحد فيه. وهو نفسه قد جزم في موضع آخر بأن إبراهيم هذا ضعيف[249]،
لعله نسي هنا هذا الاندفاع فمشى مع الجمهور. وأما غيره من أئمة الحديث من
أتباع الإمام الشافعي فلم يذهبوا مذهب ابن عدي، لما فيه من مخالفة إجماع
أئمة الجرح والتعديل. بل بحثوا العذر للشافعي، واعترفوا بأنه قد أخطأ في
اعتماده عليه[250].
وفي الكتاب بعض النماذج من هذا القيل حيث يشعر القارئ أن ابن
عدي يبالغ في الدفاع عن المترجم له والاعتذار له، والتقليل من ضعفه لكونه
من شيوخ الشافعي أو تلاميذه، أو أن الشافعي أثنى عليه وأحسن الظن فيه، مثل
حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي المصري،
وسعيد بن سالم القداح، ومسلم بن خالد الزنجي، ومقاتل بن سليمان الأزدي
الخراساني، أبي الحسن البلخي، نزيل مرو، والحسين بن علي أبي علي الكرابيسي[251].
ثانيا: الجنوح إلى تضعيف أناس لأسباب مذهبية:
وفي المقابل يشعر القارئ أن ابن عدي عندما يذكر الإمام أبا
حنيفة وشيوخه وتلاميذه لا يظهر منه ذلك التريث والاعتدال والسعي الحثيث
للاعتذار عن الراوي. وبالمثال يتضح المقال. فقد ذكر ابن عدي ضمن الضعفاء
“إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة (ت 212هـ)”، ولم ينقل فيه جرحاً عن أحد فيما
يتعلق برواية الحديث. وإسماعيل بن حماد هذا قد وصف الذهبي بأنه “إمام”
وأنه من كبار الفقهاء، ونقل عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال: ما ولي
القضاء من لدن عمر إلى اليوم أعلم من إسماعيل بن حماد. قيل: ولا الحسن
البصري؟ قال: ولا الحسن. وذكره ابن العماد الحنبلي فقال: “الفقيه أبو حيان
إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة الإمام، روى عن مالك بن مغول، وجماعة. وولي
قضاء الجانب الشرقي ببغداد، ثم ولي قضاء البصرة، وكان موصوفاً بالزهد
والعبادة والعدل في الأحكام”، ولم أعلم أحداً أساء الثناء عليه في دينه
وورعه أو عدله[252].
ورغم ذلك ذكره ابن عدي، ونقل فيه بعض ما ينكر في العقيدة مثل القول بخلق
القرآن، والقول في الإيمان أهو القول فقط أم القول والعمل معاً، ولم ينقل
فيه عن أحد جرحاً في رواية الحديث. ثم قال: “وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة
ليس له من الروايات شيء. ليس هو ولا أبوه ولا جده أبو حنيفة من أهل
الروايات، وثلاثتهم قد ذكرتهم في كتابي هذا في جملة الضعفاء”[253].
قارئ كتاب ابن عدي يستغرب هذا الأسلوب منه ويتعجب، ولا يجد
بداً من أن يسأله: إذا لم يكونوا من أهل الروايات فلم ذكرتهم في كتابك؟
للتشهير بهم؟ فمنهج الكتاب والشرط الذي اشترطه على نفسه يقتضي أن لا يذكر
إلا من جرح في باب الرواية، وإسماعيل هذا لم ينقل فيه أي جرح في باب
الرواية، وإنما ذكر بعض الأشياء في أمور العقيدة. وما نقله يبدو أنه كذب
وافتراء. وإن كان صحيحاً فإن كتابه هذا لم يؤلف لذكر المجروحين في العقيدة
حقاً أو باطلاً، فكم من مجروح في العقيدة حقاً ويقيناً من الجهمية والمشبهة
والمعتزلة والخوارج لم يذكرهم ابن عدي لعدم اتصالهم برواية الحديث. ثم إن
هناك عدداً من المحدثين الأئمة قد جرحوا في العقيدة لم يذكرهم ابن عدي، مثل
علي بن المديني، أمير المؤمنين في الحديث قال بخلق القرآن، وتلميذه الإمام
البخاري جرح في هذه المسألة أيضا[254]، لم يذكرهما وأمثالهما ابن عدي في كتابه.
ومن جهة أخرى نرى ابن عدي يذكر عدداً كبيراً من الرواة الذين
لهم روايات قليلة فيكف عن جرحهم احتجاجاً بأن مقدار ما لهم من الروايات لا
يمكن من خلالها الحكم عليهم أضعاف هم أم ثقات. وقد رأينا نماذج عديدة من
ذلك فيما سبق، حيث رأينا أنه يتوقف عن جرح من لم يطلع على حديثه فيقول:
“ولم يتفق لي إخراج شيء من حديثه يدل عمن يروي عنه حتى أحكم بأنه ضعيف”، أو
“داود بن عجلان هذا معروف بهذا الحديث، وإن كان له غيره فلعله حديث أو
حديثان، وفي هذا المقدار من الحديث كيف يعتبر حديثه فيتبين أنه صدوق أو
ضعيف، على أن البلاء من أبي عقال دونه”، وتارة قال: “وليس في مقدار ما له
من الحديث أن يعتبر بحديثه ضعيف هو أو صدوق”. وهكذا في رواة كثيرين جداً،
فالراوي إذا لم يكن من “اهل الروايات” فابن عدي لا يجرحه- لأن أحكامه إنما
تبنى على دراسة الروايات وموازنتها- وإن جرحه غيره. فكيف هو يجرح راوياً
يصرح بأنه “ليس من أهل الروايات”، فهل كان يشفي غليله من الأحناف بأن يقول
لهم: انظروا إلي ها أنا ذا قد ذكرت إمامكم وأبناءه في الضعفاء في كتابي؟
والله أعلم، ولكن الظاهر أنه قد حاد عن سبيله المعروف في الاعتدال
والاتزان، ولعله أخذته نفحة من التعصب المذهبي السائد في عصره.
وأما الإمام أبو حنيفة فقد ذكره ابن عدي ونقل عن النقاد جرحهم
له، وتضعيفهم إياه، وتشنيع بعض المعاصرين، وبعض المتأخرين عليه، ونقل ثناء
بعض العلماء عليه، وساق جملة من أحاديثه التي تفرد بها ووهم فيها، وبين
مواضع الوهم فيها، ثم قال: “وأبو حنيفة له أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه
غلط وتصاحيف وزيادات في أسانيدها ومتونها، وتصاحيف في الرجال، وعامة ما
يرويه كذلك، ولم يصح له في جميع ما يرويه إلا بضعة عشر حديثاً، وقد روى من
الحديث لعله أرجح من ثلاثمائة حديث من مشاهير وغرائب، وكله على هذه الصورة؛
لأنه ليس هو من أهل الحديث، ولا يحمل على من تكون هذه صورته في الحديث”[255].
والظاهر أنه يعني أنه لا يكتب حديثه. ويحق لابن عدي أن يجرح أبا حنيفة إذا
ثبت له الجرح، ولا يعاب عليه ذلك، ولكن يلحظ عليه أمور عدة:
أولاً: أنه لم ينظر إلى رواية الثقات عن أبي حنيفة، كما فعل
في كثير من الرواة، فإن أبا حنيفة قد روى عنه أكثر من مائة محدث، أغلبهم من
الثقات الحفاظ المشهورين بالرواية والحديث والفقه في زمانهم، ذكرهم الذهبي
وغيره[256]،
في حين أنه دافع عن كثير من الرواة، ومال إلى توثيقهم، أو قبول أخبارهم
اعتماداً على رواية بعض الثقات عنهم، وقد سبق لنا بعض الأمثلة لذلك.
ثانيا: أنه لم يعتذر لأبي حنيفة بشيء وإن كان عادته في أغلب
المجروحين أن يعتذر لهم بأن يقول لهم “أرجو أن لا يتعمد الكذب ولكن يشتبه
عليه” أو “يهم في الشيء بعد الشيء” أو نحو ذلك من الألفاظ التي سبقت. وأبو
حنيفة أجدر بأن يعتذر له بمثل ذلك؛ لأنه قد وثقه جماعة من أئمة النقد في
حفظه وضبطه وعدالته وورعه، ومن جرحه فإنهما جرحه في حفظه وضبطه، أو تكلم
فيه من أجل الخلاف المذهبي أو العقدي، كما هو مفصل في مصادر ترجمته، وكما
ذكر بعضه ابن عدي نفسه. فهو أولى بأن يعتذر له إن ثبت أنه وهم وأخطأ في
قليل أو كثير من رواياته. ولعلنا نوازن ما قاله في أبي حنيفة بما قاله في
معاصره وخصمه الألد شريك بن عبد الله بن الحارث بن شريك بن عبد الله
النخعي، فقد ذكره فيه أنواعاً من الجرح من السابقين، فهو عند جمهور النقاد
ضعيف جدا، وعند بعضهم صدوق ضعيف الحفظ كثير الوهم والخطأ. ثم أورد ابن عدي
جملة كبيرة من أحاديثه المنكرة التي أخطأ فيها، ثم قال: “ولشريك حديث كثير
من المقطوع والمسند وأصناف، وإنما ذكرت من حديثه وأخباره طرفاً منه، وفي
بعض ما لم أتكلم علي حديثه مما أمليت بعض الإنكار، والغالب على حديثه الصحة
والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه، لا
أنه يتعمد في الحديث شيئاً مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف”[257]،
ولعلك، أيها القارئ الكريم، قد تبين لك المسافة الكبيرة بين الحكمين، فهذا
رغم ثبوت كثرة أخطائه وأوهامه يدافع عنه بأنه لا يتعمدها، بل يؤتى من سوء
حفظه، ثم يبالغ بأنه ما لم يتعمد الخطأ فلا يستحق أن يضعفه”، وكأن سوء
الحفظ ليس بضعف في راوي الحديث!
وقد رأيناه يقول في عفان بن مسلم أبي عثمان الصغار الذي ضعفه
جماعة: “وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما فيه ينسب إلى
الضعف… ولا أعلم لعفان إلا أحاديث … مراسيل فوصلها، وأحاديث موقوفة فرفعها،
وهذا مما لا يتنقصه؛ لأن الثقة وإن كان ثقة قد يهم في الشيء بعد الشيء..”.
يا سبحان الله! فهاهنا يعد أن وصل المرسل ورفع الموقوف ليس عيباً ولا
ضعفاً في الراوي، ثم يأتي فيضعف أبا حنيفة بهذا السبب فقط.
ثالثاً: أنه نقل جملة من روايات أبي حنيفة التي خالف فيها
الثقات، فحكم من خلالها بضعفه، ولكنه لم يتثبت من صحة نسبته إلى أبي حنيفة،
فقد رأينا في أسانيدها ما بين ابن عدي وأبي حنيفة بعض المجروحين، كما أنه
يوجد في شيوخ أبي حنيفة من هو ضعيف. فلا بد من التأكد هل البلاء من أبي
حنيفة أو ممن بعده أو ممن قبله. وقد رأينا أن ابن عدي في كثير من الأحيان
يقول: “وأخاف أن يكون البلاء من الراوي عنه لا منه”، أو “لا أدري البلاء
منه أو من الراوي عنه” أو نحو ذلك من العبارات التي تنبئ عن دقته. ولكنه لم
يفعل ذلك مع أبي حنيفة. ولتوضيح ذلك أقول: إنني قد رأيت ابن عدي يسوق في
ترجمة أبي حنيفة ستة من أحاديثه، وبين في ثلاثة منها أنه تابعه فيها بعض
الرواة، إلا أنه رد المتابعة بأن الرواة الذين تابعه فيها ضعفاء. وأما
الثلاثة الباقية التي ضعف بها أبا حنيفة فهي كما يلي:
1) ذكر ابن عدي بإسناده عن أبي حنيفة عن أبي سفيان عن أبي
نضرة عن أبي سعيد عن النبي r قال: “مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير،
وتحليلها التسليم، وفي كل ركعتين تسليم بعد التشهد، ولا تجزئ صلاة إلا
بفاتحة الكتاب ومعها شيء”، وقال: “زاد أبو حنيفة في هذا المتن: “وفي كل
ركعتين تسليم”[258].
أي إن هذه الزيادة ما تفرد به أبو حنيفة وأن غيره من الرواة رووه بغير هذه
الزيادة، فهو من مناكيره، ودل على عدم ضبطه. والواقع أن أبا حنيفة لم
يتفرد بهذه الزيادة، بل تابعه فيها غيره، فقد روى أبو يعلى الموصلي هذا
الحديث فقال: “حدثنا عبد الغفار، حدثنا علي بن مسهر عن أبي سفيان عن أبي
نضرة عن أبي سعيد عن النبي r بهذه الزيادة[259]، فأبو حنيفة قد تابعه في هذه الزيادة علي بن مسهر، وهو ثقة من رواة الصحيحين[260]، فما أبعدَ ابن عدي عن الحق والعدل والإنصاف في اتهام أبي حنيفة بهذه الزيادة!
2) روى بسنده عن أبي حنيفة: ثنا أبو حجية، عن ابن بريدة عن
أبي الأسود الدئلي عن أبي ذر عن النبي r: “إن أحسن ما غيرتم به الشعر
الحناء والكتم”، وذكر أن غير أبي حنيفة من الرواة لم يذكروا في السند “ابن
بريدة”، فذكره زيادة منكرة في السند منه، يدل على أنه لم يضبط هذا السند
جيداً، فخالف غيره من الرواة. ولست أدري كيف ذكر ابن عدي هذا الحديث في
مناكير أبي حنيفة! فإنه حديث مشهور بسنده ومتنه، فقد رواه أصحاب السنن
الأربعة في سننهم، وأحمد في المسند، وكلهم بهذا السند، وبهذا اللفظ، وتابع
أبا حنيفة في روايته عن أبي حجية عن ابن بريدة عن أبي الأسود عن أبي ذر كل
من عبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وهُشيم بن بشير، وعبثر بن
القاسم، وعبد الله بن إدريس وابن نمير، كما تابع أبا حجية في ذكر عبد الله
بن بريدة سعيد بن إلياس الجريري[261]
3) قال ابن عدي: ثنا عبدان، ثنا زيد بن الحريش، ثنا أبو
همام الأهوازي، عن مروان بن سالم عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة
عن عبد الله أن النبي r أكل ذبيحة امرأة”، ثم قال: “لم يروه موصولاً غير
أبي حنيفة، زاد فيه علقمة وعبد الله والنبي r.. يرويه منصور، ومغيرة عن
إبراهيم قوله”[262].
فالحديث رواه غير أبي حنيفة موقوفا على إبراهيم النخعي، فهو مخطئ في رفعه
ووصله. والملحوظ أن الراوي عن أبي حنيفة مروان بن سالم ضعيف جداً متروك،
منكر الحديث، كما ذكره ابن عدي نفسه في كتابه وقال فيه: “وعامة ما يرويه لا
يتابعه الثقات عليه”[263]. فكيف تعين لابن عدي حمل العبء على أبي حنيفة دون مروان هذا، بل الظاهر أن البلاء من مروان لا منه أبي حنيفة.
وهنا لا بد أن يتفكر الباحث أن ابن عدي إذا كان يخطئ في الحكم
على أوهام أبي حنيفة في هذه الأحاديث القليلة التي ذكرها، بسبب يتعجله
وتسرعه، وميله عنه، مما منعه من التريث والتعمق، فلا يبعد أن يحصل له مثل
ذلك في بقية الأحاديث “الثلاثمائة” التي أشار إليها.
ومما سبق تبين أن ابن عدي رغم ما يتصف به من الاعتدال
والتوازن قد انساق مع التيار العصبي السائد في عصره، ويظهر شيء من هذا
الجنوح والقسوة والتعجل في مناقشته بعض تلاميذ أبي حنيفة، مثل محمد بن
الحسن الشيباني، ويوسف بن خالد السمني، والحسن بن زياد اللؤلؤي، والحكم بن
عبد الله أبي مطيع البلخي[264]. خلافاً لأبي يوسف، وأسد بن عمرو، صاحبي أبي حنيفة، وفقد أثنى عليهما ووثقهما[265].
والظاهر أن ابن عدي الأصل فيه الاعتدال والاتزان والتريث في الحكم
والاعتذار للراوي المجروح، وعدم المحاباة في ذلك كله، إلا أن حبه الفطري
لمذهبه وأئمته، وكرهم الطبعي للأحناف والتيار العصبي السائد بين الأحناف
وبين المحدثين قد دفعه أحيانا إلى الخروج من الاعتدال وتجاوز الحد، والتعجل
والتعصب في الجرح أو التعديل.
وبعد فرغم تلك المآخذ القليلة والهفوات اليسيرة فإن “الكامل
في ضعفاء الرجال” لابن عدي يبقى من أوسع الموسوعات في المجروحين، ومن أعظم
المؤلفات فائدة في علم الجرح والتعديل، وأهم المصادر لمعرفة الضفعاء
والأحاديث الضعيفة والموضوعة وعللها ومواضع الإنكار فيها، وينبغي، وأزخرها
فائدة وأغزرها مادة. فرحم الله بن عدي وجازاه عن الإسلام والمسلمين، وعن
الحديث والمحدثين خير الجزاء.
[1] السيوطي، طبقات الحفاظ (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1403هـ/1983م) ص 380.
[2] الذهبي، سير أعلام النبلاء، (تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة 1409هـ/1989م) 16/154.
[3] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154.
[4] ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418هـ/1997م) 1/129، و132، و207.
[5] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/541-547.
[6] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154.
[7] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154.
[8] ابن عدي، الكامل 1/83.
[9] المرجع السابق 1/96.
[10] المرجع السابق 1/96.
[11] المرجع السابق 1/98.
[12] المرجع السابق 1/100.
[13] المرجع السابق 1/109.
[14] المرجع السابق 1/113.
[15] المرجع السابق 1/120.
[16] المرجع السابق 1/122.
[17] المرجع السابق 1/157.
[18] المرجع السابق 1/183.
[19] المرجع السابق 1/184.
[20] المرجع السابق 1/188.
[21] المرجع السابق 1/189.
[22] المرجع السابق 1/196.
[23] المرجع السابق 1/108.
[24] المرجع السابق 1/109.
[25] المرجع السابق 1/113.
[26] المرجع السابق 1/124.
[27] المرجع السابق 1/181.
[28] المرجع السابق 1/190.
[29] المرجع السابق 1/191.
[30] المرجع السابق 1/217.
[31] المرجع السابق 1/219.
[32] المرجع السابق 1/227.
[33] المرجع السابق 1/270.
[34] المرجع السابق 1/286.
[35] المرجع السابق 1/298.
[36] المرجع السابق 1/311.
[37] المرجع السابق 1/321.
[38] المرجع السابق 1/322.
[39] الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني، الإرشاد في معرفة علماء الحديث (بيروت، دار الفكر 1993م/1414هـ) ص 291، وابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب (بيروت، دار الفكر) 3/51.
[40] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/48-49، وابن عدي، الكامل 1/80.
[41] الذهبي، سير أعلام النبلاء 13/535-536، وابن عدي، الكامل 1/84.
[42] الذهبي، سير أعلام النبلاء 13/568، وابن عدي، الكامل 1/99.
[43] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/96-113، وابن عدي، الكامل 1/111.
[44] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/118، وابن عدي، الكامل 1/81.
[45] ابن خلكان، وفيات الأعيان (بيروت، دار صادر) 1/77-78، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، (القاهرة، وزارة الثقافة، دون تاريخ)3/188، وابن عدي، الكامل 1/82.
[46] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/7-10، وابن عدي الكامل 1/80.
[47] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/238، وابن عدي، الكامل 1/100.
[48] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/174-180، وابن عدي، الكامل 1/81.
[49] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/286، وابن عدي، الكامل 1/80.
[50] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/292-293، وابن عدي، الكامل 1/91.
[51] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/417-422، وابن عدي، الكامل 1/112.
[52] الذهبي، سير أعلام النبلاء 13/221-237، وابن عدي، الكامل 1/138.
[53] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/440-456، وابن عدي، الكامل 1/135.
[54] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/510-512، وابن عدي، الكامل 1/156.
[55] الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/501-507، ابن عدي، الكامل 1/101.
[56] الذهبي، سير أعلام النبلاء 15/10-13، وابن عدي، الكامل 1/99.
[57] ابن خلكان 1/71-72، والذهبي، سير أعلام النبلاء 15/27-32، وابن عدي، الكامل 1/111.
[58] الذهبي، سير أعلام النبلاء 13/263-269، وابن عدي، الكامل 1/304.
[59] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155، و15/340-355، وابن عدي، الكامل 1/338-339.
[60] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154، و17/301-303.
[61] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155، و17/381.
[62] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155، و17/544.
[63] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155، و17/469-471.
[64] الخليل الخليلي، الإرشاد ص 291، والذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154، 155، وابن العماد، شذرات الذهب 3/51، والزركلي، الأعلام (بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة التاسعة، 1990م) 4/103.
[65] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/156، والزركلي، الأعلام 4/103.
[66] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/154.
[67] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155.
[68] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155.
[69] الخليلي، الإرشاد ص 291.
[70] الخليلي، الإرشاد ص 291.
[71] ابن كثير، البداية والنهاية (بيروت، دار الفكر، الطبعة الإولى 1416هـ/1996م) 8/36.
[72] السيوطي، طبقات الحفاظ ص 381.
[73] ابن العماد، شذرات الذهب 3/51.
[74] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة (إيران، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404هـ) 1/451.
[75] د. إبراهيم أنيس وزملاؤه: المعجم الوسيط (بيروت، دار الفكر، دون بيانات) 1/115.
[76] د. أمين أبو لاوي، علم أصول الجرح والتعديل (السعودية، الخبر، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1418هـ/1997م) ص 71.
[77] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 5/246.
[78] د. إبراهيم أنيس، المعجم الوسيط 2/588.
[79] د. أمين أبو لاوي، علم أصول الجرح والتعديل ص 71.
[80] الحافظ العراقي، التقييد والإيضاح (بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الخامسة 1418هـ/1997م) ص 420.
[81] الترمذي، محمد بن عيسى، الجامع الصحيح (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408هـ/1987م) 5/33، كتاب العلم، الحديث رقم 2656، و2657، وأحمد بن حنبل، المسند (مصر، القاهرة، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى 1417هـ/1997م)، الجزء الأول من المجلد الرابع، ص 405-406، مسند المدنيين، رقم 16296، وابن الأثير: المبارك بن محمد، جامع الأصول (بيروت، دار الفكر، الطبعة الثانية 1403هـ/1983م) 8/18، رقم 5848، 5849
[82] متفق عليه. البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، (مع شرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني، لبنان، بيروت، دار الفكر) 1/199، كتاب العلم، رقم 106، ومسلم بن الحجاج القشيري، الصحيح (مصر، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية) 1/9، المقدمة، رقم 1.
[83] مسلم 1/10، المقدمة، رقم 5.
[84] مسلم 1/9، المقدمة.
[85] مسلم 1/12، المقدمة، رقم 6.
[86]
انظر لذلك أحاديث في البخاري 7/126، و9/46، كتاب المناقب، رقم 3808، وكتاب
فضائل القرآن، رقم 4999، ومسلم 4/1913، فضائل الصحابة، رقم 2464، والبخاري
7/498، كتاب المغازي، رقم 4250، والبخاري 7/90، كتاب المناقب، الحديث رقم
3741، والبخاري 8/93-94، كتاب المغازي، رقم 4380. ومسلم 4/1881، كتاب فضائل
الصحابة، رقم 2419، ومسلم 2/1114-1120، كتاب الطلاق، باب البائن لا نفقه
لها، رقم 1480، والبخاري 10/471، كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل
الفساد والريب، رقم 6054، ومسلم 4/2144-2145، كتاب صفات المنافقين
وأحكامهم، رقم 2780، ومسلم 4/1942، كتاب فضائل الصحابة، رقم 2495، والترمذي
5/653-654، كتاب المناقب، رقم 3863.
[87] مسلم 1/59-60، كتاب الإيمان، رقم 31.
[88] مسلم 2/886-892، كتاب الحج، رقم 1218، والنسائي، أحمد بن شعيب، السنن (لبنان، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية 1412هـ/1992م) 5/157: كتاب مناسك الحج، رقم 2712.
[89] ابن ماجه 1/352-353، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، رقم 1111، والبوصيري، أحمد بن أبي بكر، زوائد ابن ماجه على الكتب الخمسة (لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1414هـ/1993م) ص 172: وقال: “إسناده صحيح، رجاله ثقات”، والألباني، صحيح سنن ابن ماجه 1/329، رقم 919/1121، وقال: “صحيح”.
[90] مالك، الموطأ (القاهرة، دار إحياء التراث العربي، 1370هـ/1951م)
2/513: كتاب الفرائض، رقم 1098، البخاري 11/26-27، كتاب الاستئذان، رقم
6245، مسلم 3/1694، كتاب الآداب، رقم 2153، البخاري 12/247، كتاب الديات،
رقم 6908. ومسلم 3/1311، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، رقم
1683، البيهقي، السنن الكبرى (لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1414هـ/1994م) 4/298، الطحاوي، شرح معاني الآثار (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1407هـ/1987م) 4/68، أحمد، المسند (مصر، القاهرة، دار المعارف، تحقيق أحمد شاكر، 1377هـ/1958م) الجزء السادس، ص 213/4453، مسند المكثرين من الصحابة، رقم 4439،
[91] مسلم 4/2058-2059، كتاب العلم، رقم 2673.
[92] الحاكم، المستدرك على الصحيحين (لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ/1990م) 1/471، رقم 1213. والذهبي، سير أعلام النبلاء 1/72، 4/85، 4/325، وابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب(لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ/1994م) 7/238، و7/287.
[93]
انظر لنماذج ذلك الجرح وألفاظه: البخاري 1/218، و6/431-433، كتاب العلم
رقم 122، وفي كتاب أحاديث الأنبياء رقم 3401، والبخاري 2/489-490، كتاب
الوتر، رقم 1002، مسلم 1/13-14، المقدمة، ومسلم 2/643، كتاب الجنائز، رقم
932، الترمذي 3/327، كتاب الجنائز، رقم 1004، ومالك 1/123، كتاب صلاة
الليل، باب الأمر بالوتر، وابن ماجه 1/449، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها،
رقم 1402، وابن عدي 1/119، 1/124، أحمد (قرطبة)، الجزء الثالث من المجلد
الخامس، ص 794، رقم 23899،
[94]
الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال (بيروت، دار الفكر) 1/1-2، وزين
الدين العراقي، التقييد والإيضح شرح مقدمة ابن الصلاح (بيروت، مؤسسة الكتب
الثقافية، الطبعة الخامسة 1418هـ/1997م) ص 420-421، وفتح المغيث بشرح ألفية
الحديث (القاهرة، مؤسسة السنة، الطبعة الجديدة 1410هـ/1990م) ص 463، ومحمد
بن عبد الرحمن السخاوي، فتح المغيث شرح ألفية الحديث (بيروت، دار الكتب
العلمية، 1417هـ1996م) 3/263-264، والسيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب
النواوي (الرياض، مكتبة الرياض الحديثة) ص 398، ومحمد عبد العزيز الخولي،
مفتاح السنة (بيروت، دار الكتب العلمية) ص 151-154، والدكتور أمين أبو
لاوي، علم أصول الجرح والتعديل (السعودية، الخبر، دار ابن عفان، الطبعة
الأولى 1418هـ/1997م) ص 202-212، والدكتور محمد بن مطر الزهراني، علم
الرجال (السعودية، الرياض، دار الهجرة، الطبعة الأولى 1417هـ/1996م) ص
131-144.
[95] الخليلي، الإرشاد ص 291.
[96] ابن كثير، البداية والنهاية (بيروت، دار الفكر، الطبعة الإولى 1416هـ/1996م)8/36.
[97] الذهبي، ميزان الاعتدال (بيروت، دار الفكر) 1/1.
[98] السخاوي، ومحمد بن عبد الرحمن، فتح المغيث شرح ألفية الحديث (بيروت، دار الكتب العلمية، 1417هـ1996م) 3/263.
[99] الذهبي، سير أعلام النبلاء 16/155-156.
[100] ابن عدي 1/78-79.
[101] ابن عدي 1/80-266.
[102] ابن عدي 9/190.
[103] ابن عدي 9/208.
[104] ابن عدي 1/267.
[105] ابن عدي 2/151.
[106] ابن عدي 1/269، و341، و2/3، و57.
[107] ابن عدي 2/153-228.
[108] ابن عدي 2/252-259.
[109] ابن عدي 2/478، و518، و3/3، و93، و504، و518، و
[110] ابن عدي 1/399-404، وابن حجر، تقريب التهذيب ص 89.
[111] ابن عدي 3/81.
[112] ابن عدي 1/302.
[113] ابن عدي 1/338-339.
[114] ابن عدي 2/169-170.
[115] ابن عدي 5/353.
[116] ابن عدي 5/305.
[117] ابن عدي 5/426.
[118] ابن عدي 2/149.
[119] ابن عدي 2/410-413، 3/65-67، 158-160، 338-340، 4/443.
[120] ابن عدي 2/111-112.
[121] ابن عدي، 1/273-274.
[122] ابن عدي 3/236.
[123] ابن عدي 3/434.
[124] ابن عدي 3/98.
[125] ابن الجوزي، العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (لاهور، دار نشر الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى 1979م) 2/30.
[126] ابن عدي 2/301.
[127] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/366، والمغني في الضعفاء (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م) 1/189.
[128] ابن عدي 2/186.
[129] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/310، والمغني في الضعفاء 1/159.
[130] ابن عدي 2/468.
[131] ابن عدي 3/324-329.
[132] ابن عدي 6/71.
[133] ابن عدي 6/207.
[134] ابن عدي 7/105.
[135] ابن عدي 4/374.
[136] ابن عدي 3/160.
[137] ابن عدي 7/340.
[138] النسائي، السنن، كتاب الأشربة، رقم 5703.
[139] ابن عدي 3/454.
[140] ابن حجر، تهذيب التهذيب (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ/1994م) 3/87.
[141] ابن حجر، تقريب التهذيب (سوريا، حلب، دار الرشيد، طبعة ثانية 1408هـ/1988م) ص 273، رقم 4318.
[142] ابن عدي 3/454، و9/91.
[143] ابن عدي 9/95.
[144] ابن عدي 3/458.
[145] ابن عدي 4/387.
[146] ابن عدي 4/370.
[147] ابن عدي 3/94-115، والذهبي، ميزان الاعتدال 1/513-515.
[148] ابن عدي 3/115.
[149] مسلم بن الحجاج القشيري، الصحيح، كتاب الإيمان، رقم الحديث 55.
[150] ابن عدي 1/295-302.
[151] ابن عدي 5/499-500. وينظر: ابن حجر، التقريب ص 351.
[152] ابن عدي 5/501.
[153] الترمذي، السنن، كتاب الصلاة، رقم 480.
[154] ابن عدي 3/314.
[155] ابن عدي 2/254.
[156] ابن عدي 7/556-557.
[157] ابن حجر، التقريب ص 250.
[158] ابن حجر، التقريب ص 89.
[159] ابن حجر، التقريب ص 508.
[160] ابن عدي 4/275-277.
[161] ابن عدي 4/278.
[162] ابن حجر، التقريب ص 467.
[163] ابن عدي 7/270.
[164] ابن عدي 6/545.
[165] ابن عدي 5/188.
[166] ابن عدي 1/559.
[167] ابن عدي 3/343.
[168] ابن عدي 3/563.
[169] ابن عدي 4/350.
[170] ابن عدي 6/212.
[171] ابن عدي 2/248.
[172] ابن عدي 2/250.
[173] ابن عدي 3/479.
[174] ابن عدي 3/433.
[175] ابن عدي 1/404، 445، 449، 488، 2/39، و3/81، 165، 340، 394، 517، 4/262، 454، 472، 5/277، 404، 417، 6/477، 487، 7/177.
[176] ابن عدي 7/176، 182.
[177] ابن عدي 7/177.
[178]
ابن عدي 1/449، 464، 465، 2/66، 177، 369، 531، 3/81، 165، 310، 378، 379،
398، 422، 520، 564، 4/140، 144، 471، 511، 512، 513، 5/281، 6/54، 152،
155.
[179]
ابن عدي 1/277، 344، 345، 405، 418، 428، 431، 433، 449، 519، 2/40، 73،
82، 227، 3/70، 561، 4/68، 374، 383، 389، 422، 425، 428، 454، 5/268، 464،
495، 526، 530، 6/86، 93، 146، 6/246، 444، 7/176، 182.
[180] ابن عدي 1/277، 1/385، 2/16، 82، 244، 3/163، 217، 509، 542، 4/68، 6/161، 166، 9/171.
[181]
ابن عدي 1/273، 327، 344، 345، 351، و374، و377، و379، و383، و384، و385،
و405، و419، و471، 519، 520، 2/44، 73، 515، 517، 527، 4/132، 5/209، 256،
274، 6/133، 7/5، 6، 9.
[182] ابن عدي 9/46.
[183] ابن عدي 5/303.
[184] ابن عدي 9/85.
[185] ابن عدي 5/367.
[186]
ابن عدي 1/454، 516، 548، 555، 2/28، 52، 182، 3/417، 531، 531، 570،
4/53، 68، 85، 436، 5/92، 102، 328، 462، 471، 478، 559، 6/131، 282، 287،
9/168.
[187] ابن عدي 1/395، 429، 436، 454، 466، 509، 2/31، 3/236، 4/63، 64، 334، 440، 465، 501، 540، 546، 5/7، 388، 536، 6/69، 119، 7/78.
[188]
ابن عدي 1/394، 406، 412، 421، و437، 511، 525، 535، 553، 2/21، 22، 67،
238، 242،298، 366، 3/184، 190، 4/284، 312، 316، 332، 356، 392، 431، 440،
448، 484، 506، 527، 5/8، 128، 138، 174، 190، 260، 266، 283، 313، 319،
332، 477، 511، 542، 6/230، 231، 424، 430، 436، 512، 514، 521، 528، 529،
548.
[189]
ابن عدي 1/385، و389، 406، 407، و409، 410، 423، 424، 431، 434، 436،
و437، 434، 491، 510، 550، 558، 2/75، 3/167، 4/508، 5/146، 161، 232، 380،
457، 513، 6/55، 273، 377، 379، 383.
[190] ابن عدي 6/385، 495، 7/25.
[191] ابن عدي 1/293، و411، و412، و421، و471، 3/531، 4/405، 5/74، 6/127، 368، 370، 504، 7/294، 418.
[192]
ابن عدي 1/293، 422، و527، 547، 552، 2/48، 75، 4/339، 392، 403، 463،
470، 535، 5/73، 83، 220، 334، 387، 544، 6/112، 114، 115، 234، 244، 301،
438، 7/254.
[193] ابن عدي 6/55، 56، 199، 377، 7/46، 89، 423.
[194] ابن عدي 6/417، 502، 7/15، 352، 9/115.
[195]
ابن عدي 1/340، 389، 397، و409، 410، 411، 412، و535، 540، 2/48، 366،
483، 4/387، 506، 5/205، 226، 271، 518، 6/102، 106، 111، 134، 136، 280،
318، 322، 331، 502، 7/352.
[196] ابن عدي 4/518، 5/80، 118.
[197] ابن عدي 1/544، 2/67، 91، 235، 295، 3/117، و131، 223، 4/264، 488، 508، 518، 5/80، 421، 6/30.
[198] ابن عدي 7/423.
[199] ابن عدي 1/412، 6/57، 58، 137، 140.
[200] ابن عدي 5/64.
[201] ابن عدي 1/330، 2/301، 4/516، 5/15، 98، 110، 347، 519، 9/95.
[202] ابن عدي 1/415، و419، و421، و527، 4/297، 298، 482، 484، 5/146، 513، 516، 518، 6/142، 143، 368، 369، 7/11، 531، 532.
[203]
ابن عدي 1/291، 324، 330، 410، 540، 558، 2/170، 195، 3/47، 233، 475،
4/173، 174، 176، 228، 290، 293، 6/23، 129، 130، 224، 260، 7/327، 553،
555، 9/123، 202.
[204]
ابن عدي 1/50، 104، 294، 418، 434، 434، 506، 508، 3/516، 4/295، 443،520،
540، 549، 5/104، 105،380، 6/34، 41، 45، 115، 131، 314، 333، 346، 464،
531، 534، 7/16، 89، 92، 154، 435، 505، 9/208، 210.
[205] ابن عدي 4/442، 5/369.
[206] ابن عدي 2/40، 44، 78، 173، 392، 5/209، 544.
[207] ابن عدي 7/522.
[208] الذهبي، ميزان الاعتدال4/61.
[209] ابن حجر، تهذيب التهذيب 9/437. وينظر: تقريب التهذيب ص 512,
[210] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/634، وابن حجر، تهذيب التهذيب 3/96-97، وتقريب التهذيب ص 189.
[211] ابن حجر، تهذيب التهذيب 12/151-152، وتقريب التهذيب 658.
[212] مسلم، الصحيح، كتاب الأشربة، رقم 2028.
[213] ابن عدي 3/450.
[214] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/634-635. وينظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 3/96-97، والتقريب ص 189.
[215] ابن عدي 1/429.
[216] ابن عدي 3/366.
[217] ابن حجر، التقريب ص 157.
[218] ابن عدي 6/77.
[219] ابن عدي 2/389-391.
[220] ابن عدي 2/421-425.
[221] ابن عدي 3/22.
[222] ابن عدي 1/338-339.
[223] الذهبي، سير أعلام النبلاء 15/350-354.
[224] ابن عدي 3/409. وينظر: الذهبي، ميزان الاعتدال 1/447، والمغني في الضعفاء 1/229.
[225] ابن عدي 1/501-502.
[226] الذهبي، المغني في الضعفاء 1/116.
[227] ابن حجر، تقريب التهذيب ص 106.
[228] ابن حجر، تقريب التهذيب ص 186.
[229] ابن عدي 3/503.
[230] ابن حجر، تقريب التهذيب ص 357.
[231] ابن عدي 6/510.
[232] الذهبي، ميزان الاعتدال 2/629.
[233] ابن حجر، تقريب التهذيب ص 442.
[234] ابن عدي 7/112.
[235] الذهبي، ميزان الاعتدال 3/331.
[236] محمد زاهد الكوثري، فقه أهل العراق وحديثهم (سوريا، مكتب المطبوعات الإسلامية، الطبعة الأولى 1390هـ/1970م) ص 83.
[237] عبد الفتاح أبو غدة، تعليقه على الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لعبد الحي اللكنوي (سوريا، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1407هـ/1987م) ص 306، التعليق رقم 1.
[238] ابن عدي 1/357.
[239] ابن عدي 1/353-357، والذهبي، ميزان الاعتدال1/57-61، وابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 1/143-144، وتقريب التهذيب ص 93، رقم 241.
[240] أبو غدة، عبد الفتاح، أربع رسائل في علوم الحديث (سوريا، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية، الطبعة الخامسة 1410هـ/1990م) ص93-136، و171-227.
[241] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/59.
[242] ابن عدي 1/358.
[243] ابن عدي 1/358-367، وابن حجر، تهذيب التهذيب 1/143.
[244] ابن عدي 7/274.
[245] ابن عدي 7/255.
[246] ابن عدي 1/535.
[247] ابن عدي 2/67.
[248] ابن عدي 1/367.
[249] ابن عدي 7/388.
[250] الذهبي، ميزان الاعتدال 1/60، ابن حجر، تهذيب التهذيب 1/145.
[251] ابن عدي 3/243، 403-409، 4/454، 8/6-11، 187-192.
[252] الذهبي، أعلام النبلاء 6/403، وميزان الاعتدال 1/226، وابن العماد، شذرات الذهب 2/28، وابن قطلوبغا الحنفي، تاج التراجم (بيروت، دار المأمون للتراث ط الأولى 1412هـ/1992م) ص 63.
[253] ابن عدي 1/510.
[254] الذهبي، سير أعلام النبلاء 11/41-60، و12/453-463.
[255] ابن عدي 8/246.
[256] الذهبي، أعلام النبلاء 6/393-394، وابن كثير، البداية والنهاية 7/86، محمد قاسم عبده الحارثي، مكانة أبي حنيفة بين المحدثين (كراتشي، إدارة القرآن، الطبعة الأولى 1413هـ) ص 152-190
[257] ابن عدي 5/35.
[258] ابن عدي 8/243.
[259] أبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى الموصلي (دمشق، بيروت، دار الثقافة العربية، الطبعة الأولى 1412هـ/1992م) 2/336، رقم الحديث 1077.
[260] ابن حجر، تقريب التهذيب ص 405.
[261]
الترمذي، السنن، كتاب اللباس، رقم 1753، والنسائي، السنن، كتاب الزينة،
رقم 5079، 5080، 5081، وأبو داود، السنن، كتاب الترجل، رقم 4205، وابن
ماجه، السنن، كتاب اللباس، رقم 3622، أحمد، المسند، 20800، 20855، 20878.
[262] ابن عدي 8/244.
[263] ابن عدي 8/119-121.
[264] ابن عدي 2/501-503، 3/160-162، 7/375-376، 8/490-497.
[265] ابن عدي 8/465-468.